في مقاطعة الانتخابات تعطيل للقواعد الشرعية:

إن مقاطعة الانتخابات ترشيحًا أو اقتراعًا، في هذه الظروف التي نعيشها، ما لم تكن له أسباب مصلحية معتبرة، من شأنه أن يُعطِّل جميع القواعد الفقهية التي تتعلق برفع الحرج عن الأمة.

 

إن القواعد الشرعية تقول: المشقة تجلب التيسير.

وتقول: إذا ضاق الأمر اتسع.

وتقول: الضرر يُزال.

وتقول: الضرر لا يُزال بالضرر.

وتقول: إذا تعارضت مفسدتان رُوعِي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما.

وتقول: درء المفاسد مقدَّم على جلب المنافع.

وتقول: يتحمل الضرر الخاص لأجل دفع الضرر العام.

وتقول: يجب الأخذ بأخف الضررين وأهون الشرَّين، إلى آخر هذه القواعد التي تتعلق برفع الحرج عن الأمة، وإن المقاطعة تُعطِّل هذه القواعد، بل المقاطعة هي سكوتٌ عن الحق، وهي قبولٌ بالمنكر، وهي قعودٌ عن الإقدام على تغييره، ولا شك أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، والساكت على المنكر، هو ذلك المعنى بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتَدْعُوُنَّهُ فَلاَ يَسْتَجِيبُ لَكُمْ".

 

وإن أشد المنكرات خطورةً لهي المنكرات السياسية، التي تُؤصِّل للاستبداد، وتمنع الناس حقوقهم، فتترتب عليها المظالم الاجتماعية والمفاسد الاقتصادية، وسائر أنواع الفساد في كل نواحي الحياة.

 

المشاركة تدرئ المفاسد عن الأمة:

إن المشاركة الانتخابية ترشيحًا واقتراعًا، من شأنها أن تدرئ الكثير من المفاسد عن الأمة، فعلى سبيل المثال: يمكن أن يحقِّق الأداء النيابي الأهداف التالية:

 

أولاً: تقويم بعض السياسات التربوية، التي من شأنها حين يتم تقويمها أن تنعكس إيجابًا على تكوين أجيال مسلحة بالعلم والأخلاق، تبني مجدها، وترفع لواء أمتها.

 

ثانيًا: تقويم بعض السياسات الإعلامية، التي من شأنها أن تنتقل بوسائل الإعلام من حالة التخريب الأخلاقي إلى حالة البناء.

 

ثالثًا: تقويم بعض السياسات الاقتصادية، التي من شأنها أن تحقق للأمة الكفاية والرفاهية والعيش الكريم، في التعليم والغذاء والعلاج والإسكان، وغير ذلك، إضافةً إلى ما يمكن استحداثه من مؤسسات مصرفية غير ربوية؛ تدفع الحرج الشرعي عن المسلمين، وتيسِّر للمتورعين عن التعاطي الربوي فرصة استثمار أموالهم استثمارًا شرعيًّا حلالاً.

 

رابعًا: تقويم بعض السلوكيات من خلال تقديم مشاريع بقوانين من شأنها الحد من التداعيات الأخلاقية، وكبح جماح ظواهر العُهر والفجور والفساد الأخلاقي والتحلل الأخلاقي، وتعاطي المخدرات، وغيرها من أسباب الإدمان الكحولية وغير الكحولية، ومن خلال تحصين الأجيال المسلمة، ودفعها إلى التمسك بالقيم الدينية والمكارم الأخلاقية.

 

خامسًا: تقويم بعض السياسات البيئية، والتي من شأنها حين يتم تقويمها التخفيف من الأخطار الناجمة عن تخلف أساليب التخلُّص من النفايات ودخان المصانع والسيارات، إضافةً إلى المخاطر الناجمة عن شركات ومستودعات الغاز والنفط المتجاوزة أبسط قواعد المحافظة على الاعتبارات البيئية والصحية والأمنية.

 

مواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني من خلال المجالس النيابية:

إن العمل من خلال المجالس النيابية والتشريعية، يُمَكِّن من تحقيق المواجهة الصحيحة للمشروع الأمريكي الصهيوني، ويمكن من خلال ذلك وقف زحف العولمة الفكرية والتربوية والإعلامية والأمنية والعسكرية، على غرار ما تقوم به المقاومة الباسلة في فلسطين والعراق وغيرها، والتي تواجه هذا المشروع في الميدان العسكري، ومن شأن دخول الصوت الإسلامي البر الطيب النافع أن يوفر دعمًا قويًّا، وأن يُعلِّي من الحس الوطني الجهادي الذي يساعد على مواجهة هذه المشاريع، التي تهدف إلى تغريب الأمة وبسط هيمنة الأجانب عليها، والتي يسعى النظام الدولي وقوى الاستخبار في العالم إلى فرضها على منطقتنا.

 

الانتخابات مشروع شرعي أصيل:

ثم إني أقول لأولئك الذين يتصورون أن الانتخابات ليس لها أصل شرعي.

أقول: بل الانتخابات مفهوم شرعي أصيل.

إن النبي صلى الله عليه وسلم حين بايعه الأنصار في بيعة العقبة الثانية قال: "أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا يَكُونُونَ عَلَى كفلاء قَوْمِهِمْ وأكون كفيلاً على قومي".

 

إذًا النبي يطلب من جموع الأنصار التي جاءت تبايعه أن تخرج له اثني عشر نقيبًا، ومعنى هذا أن تنتخب هذه المجموعة اثني عشر يمثلون هذه المجموعة كلها، وينوبون عنهم في عقد المبايعة مع النبي صلى الله عليه وسلم.

 

صحيح لم يحدث انتخابات بالصورة التي تحدث في يومنا هذا، لكن هذه كلها أشكال لعملية الانتخاب، لكن المضمون واحد، وهو عملية الانتخاب.

 

بل أرسل الله إلى بني إسرائيل وبعث منهم اثني عشر نقيبًا.

 

والمقصود بالنقابة أن النقيب كفيل عن قومه.

 

فقضية انتخاب فئة تمثل الأمة قضية إسلامية ومفهوم إسلامي أصيل، وأشكال هذا الدور يتغيِّر من وقتٍ إلى آخر، ولا بأسَ من ذلك ما دام المضمون قائمًا وصحيحًا.

 

التزوير للانتخابات لا يدفعنا إلى اليأس:

وأقول للذين يتقاعسون، ويقولون: نحن نقاطع الانتخابات لأنها ستُزور مثل كل مرة، ولن ينجح أحد ممن سنختارهم، والأولى بنا أن نقاطعها؛ لأنها لا فائدةَ من الإدلاء بالصوت فيها؛ لأن النتيجة محسومة سلفًا.

 

أقول لهؤلاء: أيها الأحبة، لقد قرر الإسلام الشورى باعتبارها قاعدة من قواعد الحياة الإسلامية، وأوجب على الحاكم أن يستشير، وأوجب عن الأمة أن تتناصح، واعتبر النصيحة هي الدين كله، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ" فقال الصحابة: لِمَنْ؟ قَالَ: "للهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ".

 

ومعنى النصيحة لأئمة المسلمين، أي: لأمرائهم وحكامهم، فقد جعل الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضةً لازمةً، وجعل أفضل الجهاد كلمة حق تُقال عند سلطان جائر، وجعل مقاومة الطغيان والاستبداد والفساد أرجح عند الله من مقاومة الغزو الخارجي، واعتبر المجاهد بكلمة الحق عند الجوَرة والظَلمة، أعلى درجةً من المجاهد في الميدان؛ لأن الغزو الخارجي غالبًا ما يأتي عند حصول الفساد الداخلي، وإذا نظرنا إلى نظام الانتخاب أو التصويت، فإنه باب من أبواب النصيحة الشرعية التي لا يصح التخلُّف عنها لأي سببٍ من الأسباب.

 

ومن واجبنا أن نعمل على إنقاذ السفينة، شاء الناس أم أبوا، قبل المفسدون أم رفضوا، إنما نحن الذين يجب أن نقوم بدورنا، وأن نمنع بخروجنا وبمواقفنا التزوير، ونمنع تزوير إرادة الأمة بخروجنا.

 

ثم إن الانتخاب يعدُّ شهادةً للمرشح بالصلاحية، ومن ثَمَّ يجب أن يتوفر في الإنسان الذي يترشح والذي يُعطى هذا الصوت، يجب أن تتوفر فيه العدالة، ويجب أن تتوفر فيه الأسباب التي تجعله صالحًا للقبول، وعندئذٍ تكون الشهادة له شهادة حق، أما الشهادة لغير الصالح وغير الكفء وتقديمه؛ فهو لون من ألوان الزور الذي أمرنا الله باجتنابه فقال: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ (الحج: من الآية 30).

 

نعم إنه لا يحل لنا أن نشهد بالصلاحية لمرشحٍ لمجرد أنه قريب أو ابن بلد أو لمنفعة شخصية قدَّمها، أو ترتجى من ورائه، بل يجب أن تُقام الشهادة لله: ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلهِ﴾ (الطلاق: من الآية 2).

 

والذي يتخلف عن أداء هذا الواجب، وعن أداء هذه الشهادة ويؤدي تخلفه إلى رسوب الكفء الأمين، وإلى فوز غيره، ممن لم تتوفر فيه أوصاف القوي الأمين، فالذي يفعل هذا يكون قد خالف أمر الله في الشهادة، فقد دُعي للشهادةِ فأبى، والله تعالى يقول: ﴿وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ (البقرة: 282).

 

وكَتَم الشهادة حين احتاجتها الأمة، فالله تعالى يقول: ﴿وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: من الآية 283).

 

ليس الترشيح تزكية للنفس المنهي عنها:

سائل يسأل: أليس الترشح بابًا من أبواب تزكية النفس؟ وهو أمر غير مقبول شرعًا، فالذي يرشح نفسه للدخول في الانتخابات، ألا يدخل ذلك من باب التزكية؟، والله تعالى يقول: ﴿فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ (النجم: من الآية 32).

 

نقول: ليس الترشح للانتخابات- إذا صحت نية المتقدِّم والمرشح- من باب تزكية النفس، إنما يدخل في بابٍ من يظن في نفسه القدرة على تمثيل الناس، والمطالبة بحقوقهم، ورفع الظلم عنهم، وأداء المصلحة لهم، وهذا أشبه بقول سيدنا يوسف عليه السلام: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ (يوسف: من الآية 55)، فهو عليه السلام وعلى أنبيائنا أجمعين، قدَّم نفسه إلى الولاية على الشئون المالية للناس؛ لما يعلم في نفسه من الأمانة والحفظ، أما طلب الإمارة، فهذا الذي جاء في الشريعة التحذير منه، وقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّا وَاللَّهِ لاَ نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ وَلاَ أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ"، وهذا بالنسبة للولاية العامة على شئون الأمة، أما التمثيل النيابي في البرلمان، فهو وكالة عن الأمة للمطالبة بحقوقها، ورفع الظلم عنها، ودرء المفاسد عنها، ومحاسبة الحكومات، ومتابعة عملها، وليس له علاقة بالولاية التمثيلية التي يقوم بها رئيس الجمهورية أو الملك أو الأمير أو رئيس الدولة أو رئيس الوزراء أو غيرها من الولايات العامة على الأمة.

 

ومع ذلك فإننا نرى أن تقوم الحركات الإسلامية يترشيح مَن تتوسم فيه الخير من أعضائها أو من غيرها من الإسلاميين، الذين يحملون المشروع الإسلامي، وتقدمهم إلى الأمة، وتدعو الناس إلى انتخابهم، وبهذا تُبعِد أية شبهة في طلب الولاية، أو في تزكية النفس، وهذا ما تفعله الحركة الإسلامية حين تختار بعض رموزها أو بعض أفرادها، أو بعض من تتوسم فيهم الخير؛ لتقدمهم إلى الترشح، ليمثلوا الأمة في المجالس التشريعية.

وللحديث بقية بإذن الله تعالى.

-----------

* أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر وعضو مكتب الإرشاد.