بدايةً نؤكد أنه ما من شريف ووطني وغيور إلا ويؤيد المصالحة الفلسطينية والوحدة الفلسطينية، ولمّ الشمل، وإنهاء الانقسام، وغيرها من مفردات الساعة..

لكن..

أية مصالحة؟

ومع مَن؟

وعلى أي أساس؟

وبأي ثمن؟

ما شهدته الأيام والأسابيع الأخيرة من جولات "حوارية" بين حركة حماس والمتنفِّذين في حركة فتح، أثبتت المُثبَت وأكَّدت المؤكد، ألا وهو استحالة التفاهم والحوار مع من يفتقدون القرار، ويرتهنون بإرادة المحتل وبشكل كامل.

 

لا نتحدث هنا عن التقارير الصحفية التي ذهبت لحد تهديد الاحتلال بإنهاء دور السلطة، ولا نتحدث عن سحب الامتيازات من أعضاء حركة فتح ومسئوليها، ومنعهم من استخدام سياراتهم الخاصة للتنقل من وإلى الضفة، ولا نتحدث عن التقارير التي هدَّد فيها الاحتلال- ومعه الولايات المتحدة- بوقف الدعم عن سلطة أوسلو إن أشركت حماس في قيادة الأجهزة الأمنية!.

 

لكننا نتحدث عن أجهزة أمنية تخضع بالكامل، عقيدةً وتدريبًا وعملياتٍ، للمحتل وخدمته والسهر على راحته، وهو ما حدا بعباس وكبير مفاوضيه للتذكير بذلك، وبدور السلطة في أكثر من مناسبة.

 

نتحدث عن غياب أية استقلالية سياسية لاتخاذ القرار لا بالمفاوضات ولا بالحوار، وليلاحظ كم من الوقت أمضاه عباس في الضفة، وكم من الوقت يقضيه بين فلان وعلان بحجة التشاور والتباحث، لعجزه المطلق والكامل عن اتخاذ أي قرار، حتى ولو بتنحيه أو استقالته أو رحيله كما هدَّد غير مرةً؟!!

 

حركة حماس وقيادتها تعي ذلك تمامًا، وتعرفه وتخبره أكثر من أية جهة وطرف، ومع ذلك تفتح الباب على مصراعيه لما يسمى بالحوار البعيد تمامًا أيضًا عن أية جدية وحسن نية من قبل متنفِّذي فتح.

 

حركة حماس وقيادتها تعرف تمامًا لماذا وقَّعت فتح الورقة المصرية العام الماضي؛ للخروج من ورطة جريمة تأجيل تقرير غولدستون، وتعرف لماذا أحب عبَّاس فجأةً المصالحة بعد جريمة أسطول الحرية؛ ليعود ويلهث مجددًا وراء مصالحة مفترضة بعد الصفعات المتتالية له ولمن معه من قبل الاحتلال والولايات المتحدة، بعد أن سقطت آخر أوراق التوت بفشله التام في الحصول حتى على وعد "من تحت الطاولة" تجميد "الاستيطان" ولأيام محدودة.

 

أي أن متنفِّذي فتح يستخدمون ورقة المصالحة تكتيكيًّا للخروج من فضائحهم وجرائمهم وفشلهم.. كل هذا تعرفه حماس وقيادتها، ويعرفه الفلسطينيون، كبيرهم وصغيرهم.
لكن مع كل ذلك تظهر حماس في الإعلام وكأنها من يركض وراء المصالحة، وتترك الساحة للطعن والتشويه، بل لا نبالغ إن قلنا إن حماس في كثير من الأحيان تعطي الطرف الآخر الذخيرة والمؤنة لمهاجمتها من خلال هفوات لا تخفى على أحد.

 

رغم ما سبق وتهافت متنفِّذي فتح على الظهور بمظهر الحريص على المصالحة، ولهثهم وراء اللقاءات مع كل مأزق، لنقرأ ما الذي يصرحون به:

 

أكد محمود عباس أن السلطة الفلسطينية لن توافق أبدًا على اقتسام الأمن مع حركة حماس إذا ما طلبت ذلك خلال جلسة المصالحة المقرَّرة في التاسع من الشهر الجاري في دمشق لبحث الملف الأمني الشائك، وقال عباس- خلال مقابلة مطولة مع جريدة (الأنباء) الكويتية في عددها الصادر الخميس 04/11/2010م- "إن كل شيء يمكن أن يكون خاضعًا للقسمة: المجلس التشريعي، الحكومة، إلا الأمن، فلا يمكن إلا أن يكون بيد واحدة، ومرجعية واحدة، وقيادة واحدة"!.

 

وأضاف: "أما قصة اقتسام الأمن في غزة والضفة فهي غير مقبولة إطلاقًا، وفي حال طرحت حماس ذلك فلن نقبل به أبدًا"، وأعرب عن أمله أن توقِّع حركة حماس على الورقة المصرية، وقال: "هذا هو الأساس في كل الحوار، نتحاور في القضايا التي يمكن أن نتوافق عليها ونتشاور فيها، ولكن في الأساس الوثيقة المصرية هي المعتمدة والأساس الأصلي لأي مصالحة".

 

في تصريح لـ(يونايتد برس انترناشونال) يوم الخميس 11/11/2010م، وصف رئيس وفد حركة فتح إلى محادثات المصالحة عزام الأحمد جولة الحوار الثانية من الحوار مع حماس بأنها كانت "مضيعة للوقت"، بخاصةٍ بعد التأجيل من عشرين الشهر الماضي إلى الثلاثاء الماضي، وأعلن عن زيارة قريبة للرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى دمشق، متهمًا إيران بـ"التدخل" في الخلاف الفلسطيني، وأضاف: "نعم.. أضعنا وقتًا بدون جدوى، وإذا لم نتسلَّم ملاحظات حماس سنكون مهزلة أمام العالم، وبالتالي لا داعي لعقد جلسة حوار أخرى، وعلى الإخوة في حماس التوجه إلى القاهرة للتوقيع على الورقة، والتفاهمات هي شأن فلسطيني داخلي".

 

عُلِمَ من مصادر فلسطينية مطلعة بأن لقاء المصالحة الأخير بين حركتي "حماس" و"فتح"-والذي عُقد الأربعاء (10-11) في العاصمة السورية دمشق- وصل إلى طريق مسدود؛ بسبب التعنُّت الذي أبداه وفد فتح فيما يتعلق بالملف الأمني، الذي شكَّل مادة البحث الرئيسية بين الطرفين.

 

وأضافت المصادر أن عدم التوصُّل إلى شيء في هذا اللقاء جاء نتيجة إصرار حركة "فتح"- وتحديدًا مدير جهاز المخابرات في السلطة ماجد فرج- على اقتصار التعديلات الأمنية على الأجهزة الأمنية الموجودة في قطاع غزة فقط، وعدم استعداده لقبول أي تعديل على الوضع الأمني في الضفة الغربية المحتلة.

 

أكد مصدر فلسطيني مطلع جدًّا على لقاءات وفدي فتح وحماس في دمشق يومي الثلاثاء والأربعاء الماضي أن المصالحة الفلسطينية "مؤجلة"، ولن تكون خلال العام الجاري، وأضاف المصدر- الذي طلب عدم ذكر اسمه- قائلاً لصحيفة (القدس العربي) 12/11/2010م: "المصالحة مؤجلة للعام القادم"، مشيرًا إلى أن عقبة الأمن التي شرعت فتح وحماس بمناقشتها خلال الاجتماع الذي عُقد في جلستين الثلاثاء والأربعاء الماضيين؛ ما زالت تحول دون تحقيق المصالحة.

 

وأوضح المصدر أن وفد فتح- برئاسة عزام الأحمد- ومشاركة مدير المخابرات العامة الفلسطينية ماجد فرج وصخر بسيسو عضو اللجنة المركزية لحركة فتح؛ عبَّر عن رفضه لفكرة المحاصصة في المؤسسة الأمنية، مشددًا على أن الأجهزة الأمنية العاملة في الضفة الغربية هي أجهزة مكتملة النصاب والشرعية، وأنه لا يمكن إجراء إعادة هيكلة لها، وأن المطلوب بحث مستقبل الأجهزة الأمنية في قطاع غزة، لكون أن الموجود في غزة هي أجهزة محدَثة؛ أي تمَّ تشكيلها حديثًا؛ الأمر الذي رفضه وفد حماس برئاسة موسى أبو مرزوق؛ لأن الأجهزة التي تمَّ تشكيلها في غزة هي أجهزة ما بعد تحرير غزة من الاحتلال الصهيوني، وهي الشرعية؛ لكونها شُكِّلت على أجندة وطنية بعد زوال الاحتلال، وأن الأجهزة التي يجب إعادة تشكيلها وفق أجندة العمل الوطني الفلسطيني هي أجهزة الضفة الغربية التي شُكِّلت في ظل الاحتلال الصهيوني، وتعمل في ظل سيطرته واحتلاله للضفة.

 

هذا ما يتعلق بالملف الأمني، مفترضين حسن النية والجدية في القبول والتطبيق لبقية الملفات!.

 

لا يمكن لعاقل أن يتصور إنجاز وحدة وطنية تشارك فيها حماس في الأجهزة الأمنية التي تنسق مع الاحتلال وتخدمه، وتأتمر بأوامره، ولا يمكن لعاقل أن يتفهَّم كيفية إنجاز الوحدة الوطنية في ظل التنسيق الأمني.

 

يقول البروفيسور عبد الستار قاسم- وتحت عنوان "إما الوحدة أو التنسيق مع إسرائيل" يجمل فيها القضية-: "التنسيق مع "إسرائيل" نقيض الوحدة، ونقيض الشعب الفلسطيني، ونقيض الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، ونقيض الاستقلال والحرية، والتنسيق الأمني مع "إسرائيل" عبارة عن استنزاف أخلاقي ووطني وديني وتاريخي ومعنوي وعاطفي وذهني للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وهو وصمة عار "مقرفة" على جبين الشعب إذا بقي هناك جبين، لقد وضَعَنا التنسيق الأمني مع العدو الذي شرَّد الشعب واغتصب الأرض في خزي تاريخي أمام أنفسنا وأمام الأمم، وجعلنا أُضحوكة للتندُّر والاستهزاء!.

 

مَن في التاريخ وقف على أبواب جلاديه وقاتليه ومغتصبيه يحرسهم وهم يزنون وينتهكون غير أصحاب التنسيق الأمني من الفلسطينيين؟! ولا يبدو أن الدعوة للخجل قد باتت تنفع، فهل من الممكن أن تتم وحدة الصف الفلسطيني على أرضية التنسيق الأمني مع "إسرائيل"؟ نحن أمام أمرين: إما أن نتوحَّد بناءً على الاعتراف بـ"إسرائيل" وخدمتها أمنيًّا، وإما على قاعدة العمل على استعادة حقوقنا.

 

ربما يقول أحد: "إن التنسيق مع "إسرائيل" يوصلنا إلى حقوقنا الثابتة، ولكن عليه أن يجيب كيف يمكن أن يستعيد مظلوم حقه من خلال خدمة ظالِمه؟ ربما يُشفق الظالم عليه قليلاً فيعطيه شيئًا، لكن الظالم لن يكون ظالمًا إذا أعاد الحقوق إلى أصحابها، وقد جرب أصحاب التنسيق الأمني على مدى عشرين عامًا تقريبًا، ورأوا أن طلبات "إسرائيل" الأمنية لا تنتهي، وأنها لا تبحث عن إعادة حقوق، وإنما عن استعباد الفلسطيني؛ ليكون حارسًا أمنيًّا لها وتحت إشرافها؛ مقابل فتات من المال تقدمها الدول المانحة بإذن من "إسرائيل" ذاتها، حتى لقمة خبز هؤلاء الذين يتوهمون أنهم سيقيمون دولة تبقى تحت رحمة الصهاينة، وكان عليهم أن يتعلموا أن فلسطين قد تحولت إلى راتب وسيارة ومتع لبعض القيادات، وأن ما يتغنَّون به من حقوق ثابتة ليس إلا مجرد شعارات إعلامية لا قيمة لها".

 

كل ذلك تعرفه حماس وتدركه جيدًا، لماذا الاستمرار في مهزلة الحوار والمصالحة مع من لا يريد تلك المصالحة ولا يمتلك قرار نفسه؟!

 

كثيرة هي الأعذار التي تساق في هذا الشأن:

- حماس لا يمكن أن تظهر بأنها من يعرقل المصالحة.

 

- في رقبة حماس مليون ونصف المليون في غزة تحت الحصار، وعليها أن تخفف عنهم.

 

- حماس مستعدة للتنازل لطرف فلسطيني في سبيل المصالحة.

 

- حماس ترى في المصالحة والوحدة الوطنية أولوية قصوى.

 

- بالله عليكم هل من يطرح هذه الأعذار مقتنع بإمكانية التوصل لأي اتفاق يحترمه الطرف الآخر، وهل من ضمانات لفك الحصار وإدخال أموال إعادة الإعمار والذهاب إلى انتخابات رئاسية وتشريعية كما يكرر عباس في كل مرة؟!

 

- ألم يتعظ الجميع من تجربة انتخابات "التشريعي" في المرة السابقة والانقلاب عليها بفرمانات عباسية بعد تدخل الاحتلال لصالح عباس ومن معه، واعتقال عشرات النواب المنتخبين؟!

 

- حماس تخسر من شعبيتها ومن دعم الجماهير لها.. تخسر من سمعتها وصورتها، وهي تظهر اليوم بهذا المظهر المحزن في حوار الطرشان الذي لن يحصد إلا المر.

 

وعودة للبروفيسور عبد الستار قاسم حين ينهي مقالته السابقة بقوله: "ولهذا مطلوب من حماس أن تتوقف عن المطالبة بإصلاح الأجهزة الأمنية؛ لأنها في ذلك تعني أنها تريد أن تكون شريكًا في إدارتها والسيطرة عليها، نحن لسنا بحاجة لهذه الأجهزة في الضفة الغربية، ويجب حلُّها.. المطلوب تطوير المقاومة على أُسس علمية ومهنية، وإقامة قيادة موحدة سرية لها في مكان سري في هذا العالم، وعلينا أن نودع العلنية في العمل، والـ"عنجهية" في استخدام السلاح، وأظن أن الجميع أصبح على يقين بأن السلاح العلني في ظل الاحتلال إما سلاح خائن أو جاهل".

 

نزيد على ذلك بالقول إن القبول بسلطة وانتخابات في ظل الاحتلال هو تشريع له، ودعم له، وحماية له، وتكبيل للشعب وقواه، ولجم للمقاومة، خاصةً بعد تجربة الانتخابات الأخيرة التي كانت اختبارًا ودرسًا عمليًّا وواقعيًّا.

 

لن تتم المصالحة مع من يرتهن للمحتل، وإن تم التوقيع عليها فلن تنفذ، وسيكون مصيرها هو ذات مصير الاتفاقات السابقة، وإن نُفذ جزء منها فسيكون انتقائيًّا، تتم بعده عرقلة الباقي، وإن صدقت النية وعاد مَن في حضن المحتل لحضن الشعب- ولا نرى ذلك حاصلاً- فحينها سيتدخل الاحتلال ويضرب الاتفاق ومن وقَّعه!.

 

لماذا؟!

ننتهي من حيث بدأنا أن المصالحة يحرص عليها كل وطني وشريف وغيور، لكنَّ المصالحة التي نريد هي المصالحة الحقيقية مع الرجال وبين الرجال.. مصالحة على قاعدة وعقيدة واضحة، أساسها وبؤرتها وبوصلتها تقول: ما دام أن أحد أطراف المعادلة هو الاحتلال والمحتل، فإن الطرف الآخر هو المقاومة حتى التحرير والعودة.

 

هذا هو أساس المصالحة الحقيقية، وما دونه لن يُكتب له النجاح، ولو عقدت عشرات اللقاءات والتفاهمات والاتفاقات، ولو انتقل ملف المصالحة من مكة إلى صنعاء مرورًا بالقاهرة ودمشق وكل العواصم، ولو وقَّعوه بماء الذهب وفي حضن الكعبة المشرفة!.

-----------

[email protected]