من الأقوال المشهورة للشيخ الفاضل الشيخ عبد الحميد كشك- رحمه الله- قوله "إننا دعونا الله بإمامٍ عادل فطلع لنا عادل إمام"، واعتبرها البعض طرفةً فضحك لها الكثيرون، ولكنها حقيقة عبَّر عنها الشيخ بطريقته اللاذعة، فالأمنيات الطيبة لا تصنع واقعًا طيبًا، والواقع يفرض نفسه إن لم يتم تغييره بعملٍ ملموس؛ وذلك تصديقًا لقول الحقِّ تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11).

 

ومما يستوقفني في ذلك رؤية الملايين تدعو في وقفة عرفة وخلف إمام الحرم والأئمة في كل مكانٍ في ليلة السابع والعشرين تدعو بحاكمٍ عادل وإمام عادل، ومع ذلك لا يرزقنا الله بإمامٍ عادل، وتصدق مقولة الشيخ نجد "عادل إمام"، ومكمن المشكلة في عدة نقاط:

1- عدم استجابة الله للدعاء.

2- واقع الناس من ابتعاد عن كتاب الله وسنة نبيه.

3- ابتلاء الله لنا بعملنا.

 

وعدم استجابة الدعاء يُفسِّره العالم الزاهد إبراهيم بن أدهم تفسيرًا يفضح ويكشف واقعنا حين سُئل إبراهيم بن أدهم رحمه الله عليه: ما بالنا ندعو ولا يُستجاب لنا؟ قال: ماتت قلوبكم من عشرة أشياء:

 

1- عرفتم الله ولم تؤدوا حقه.

2- عرفتم النار ولم تهربوا منها.

3- عرفتم كتاب الله ولم تعملوا به.

4- تدفنون موتاكم ولا تعتبرون.

5- انشغلتم بعيوب غيركم وتركتم عيوب أنفسكم.

6- عرفتم الجنة ولم تعملوا لها.

7- عرفتم أن الموت حق ولم تستعدوا له.

8- ادعيتم عداوة الشيطان وواليتموه.

9- تأكلون رزق الله ولا تشكرونه.

10- ادعيتم محبه الرسول صلى الله عليه وسلم وتركتم سنته وأثره.

 

وأعتقد لو عاش ابن أدهم في زماننا لذكر مائة ألف سبب لعدم استجابة الدعاء وليس عشرة فقط، فواقع الناس فسد لأسباب كثيرة، منها ضعف وهوان بعض الدعاة في الدعوة إلى الله والقيام لله بما أمر؛ فانتشر الوهن بين الناس لانتشاره في القدوة والنموذج.

 

أما ابتلاء الله لنا بواقعنا السيئ، فكما قال الشيخ "طلع لنا عادل إمام"، فهو يدل على بصيرة من عند الله للشيخ الذي استغل رمزية اسم ممثل هزلي؛ ليدلنا على واقعنا من خلال الرمز، فواقعنا فيه كوميديا سوداء يفتعلها المستبدون بهزلية واضحة، فهم يظلمون ويستبدون ويزوِّرون ويتحدثون عن العدل والنزاهة؛ تحقيقًا لقاعدة الاستخفاف التي ذكرها الله في قوله: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)﴾ (الزخرف).

 

ومن هنا أتوقف مع نقطة مهمة في واقعنا الدعوي ألا وهي أين الدعاة الذين يملئون الشاشات بالبرامج مما حدث من ظلم في انتخابات مجلس الشعب وفساد في كل مناحي الحياة، ولعل بعضهم يتعلل أنه يرفض الانتخابات؛ ولكني أقول له: وهل تقبل الظلم وهل تقبل تزوير إرادة شعب؟ وهل تقبل أن ينتشر الفساد ويتولى أمرك فاسدون ومستبدون يشرِّعون من دون الله.

 

أعتقد أن هؤلاء طاب لهم التعلل برفض الانتخابات وقولبة الدعوة في العظات والعبادات؛ ليهربوا من مواجهة الظلم والفساد؛ كي تطيب لهم معيشتهم الهنية في السكوت عن الظالمين، رغم أن الظلم والفساد يطول الجميع.

 

وأسترجع ما حدث في الشهور الأخيرة، وأتذكّر الشيخ كشك العملاق- رحمه الله- وأقول: أين صوت أسد الدعوة أمام طغيان الكنيسة ومشكلة الأسيرات المسلمات من وفاء إلى كاميليا شحاتة.. والله إن الشيخ كشك- رحمه الله- كان وحده أمة ترتعد الكنيسة والفاسدون والمستبدون من كلمة الحق التي يجهر بها؛ فتزلزل أركان كل ظالم.

 

وتتوق نفسي إليه فأتلفت أبحث عنه، وأقول لنفسي والله الذي لا إله إلا هو لو كان حيًّا بيننا الآن؛ لكان صوته قويًّا عاليًّا مرتفعًا في جنبات مصر كلها وليس مسجد عين الحياة،
قائلاً: لا للظلم.. لا لتزوير إرادة الشعب.. لا للفساد.. لا للاستبداد.. لا لتضييع هوية مصر الإسلامية.

 

 لكنى أتذكر أنه في يوم السادس من ديسمبر 1996م سقطت شجرة عظيمة من أشجار الدعوة الإسلامية القوية المثمرة المزهرة الرفرافة، التي استظل بها ملايين المسلمين في العالم، ينعمون بكل خير ونسمات الدعوة في ظلها، فقد تُوفي في هذا اليوم إلى رحمة الله الشيخ الداعية الفاضل عملاق الدعوة الشيخ عبد الحميد كشك- رحمه الله- حيث توضأ الشيخ كشك في بيته لصلاة الجمعة، وكان يتنفُّل بركعتين قبل الذهاب إلى المسجد، فدخل في الصلاة وفي السجدة الثانية لقي ربه.

 

نعم.. فرحمه الله رحمة واسعة، لم يكن يتردَّد في كلمة الحق ولو كان أول المتهمين في نيابة أمن الدولة؛ فحساباته كانت مع الله وليس مع الدنيا.. ماذا يكسب وماذا يخسر منها؟

 

لذلك اعتقله الرئيس عبد الناصر عام 1965م، وظل بالمعتقل لمدة عامين ونصف العام، تنقل خلالها بين معتقلات طرة وأبو زعبل والقلعة، ورغم ذلك خرج ثابتًا على العهد وفيًّا للداعية الأول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في صدق الدعوة، ولم ينافق أو يجامل، وظل ينتقد مفاسد الدولة بكل ما يستطيع، فكان حُجة على غيره من الدعاة.

 

وضاق السادات من كلمة الحق التي يجهر بها فاعتقله في عام ١٩٨١م ضمن اعتقالات سبتمبر الشهيرة، وقد قتل السادات بعدها بشهر وقد أُفرج عنه عام ١٩٨٢م، ولم يعد إلى مسجده الذي مُنع منه ومن الخطابة فيه؛ ولكنه لم يتوقف عن الدعوة إلى الله؛ سواء بالرد على الفتاوى أو التماس كل نافذة للدعوة وبنشر كتبه، وكان من أكبر المواقف الدعوية له وسجَّلها التاريخ له بأحرف من نور هو رفضه المساومة على عودته للخطابة والدعوة مقابل ألا يأمر الدولة بالمعروف وينهاها عن المنكر، وظلَّ ثابتًا كالشجرة العملاقة لم ينخر فيها سوس الدنيا، وطلت أوراقه الدعوية ورّاقة مثمرة.

 

ولكن إن مات الشيخ كشك فما زالت ثمار دعوته وصدقه لم يسقط خيرها المثمر، ليس فقط من تسجيلات وكتب؛ ولكن من مواقف ثبات دعوية، نصر بها الإسلام والمسلمين، ولم يتزحزح عن موقفه؛ فكان حجة على غيره من الدعاة المبصرين الذين يتزحزحون عن مواقف الثبات الدعوي من أقل الفتن والاختبارات.

 

رحم الله الشيخ الفاضل الكريم الذي علمني وعلم الملايين كيف تكون نصرة الدين، وجمعني الله وإياه مع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبيه الصديق والفاروق في الفردوس الأعلى.

----------

* محامٍ وكاتب- [email protected]