لقد حدد القرآن الكريم غايات الحياة، فبيَّن أن قومًا همهم من الحياة الأكل والمتعة، وقومًا همهم الزينة والعرض الزائل، وآخرين شأنهم في الحياة إيقاد الفتن وإحياء الشرور والمفاسد، ولكن المسلم الحق غايته واضحة جلية، وهو الذي يجعل دنياه وقفًا على دعوته ليكسب آخرته جزاء تضحيته.

 

سأل الرسول القعقاع: "ماذا أعددت للجهاد؟" قال: طاعة الله ورسوله والخيل، فقال صلى الله عليه وسلم: "فتلك الغاية".

 

ومن هنا نتسأل ما منتهى الآمال التي يرجوها المسلم؟ وما أخطر قضية في حياته؟ تساؤل يجيب عليه الأستاذ عبد الحليم الكناني في كتابه "غايتنا" من إصدار دار البشير عام 1992م فهيا نبحر فيه...

 

غايات الناس.. واختلافها

أولاً: حيرة وضلال:

هؤلاء طائفة من الناس لم تهتدِ للإجابة على التساؤلات السابقة، فعاش أصحابها في تخبط وحيرة شملت عقولهم ونفوسهم من الداخل، وحياتهم وأعمالهم ومعيشتهم من الخارج، وهذا المذهب قديم عبَّر عنه الشاعر بقوله:

لعمري ما أدري وقد أزف البلى            بعاجل ترحالي إلى أين ترحالي؟

 

ثانيًا: غايات قاصرة.. ومنحرفة:

وهؤلاء اختلفت درجاتهم في الفكر والنظر، وكذلك في الهمة والطموح.

 

- فنظروا إلى الحياة نظرة مادية سطحية، لم تنفذ إلى ما وراء المظاهر والماديات من معانٍ وحكمٍ وأسرارٍ، فعبَّر عنهم القرآن الكريم: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)﴾ (المؤمنون).

 

- وكانت النتيجة أن عاش أصحاب تلك التصورات لغايات محدودة وقاصرة.

 

1- غاية عرفجة:

مَن ضعف فكره، وتدنت همَّته، وقصرت عزيمته؛ كانت غايته من التفاهة، بحيث لا تتعدى أن يجد طعامًا وشرابًا وراحة ونومًا، فإن تحقق له ذلك فلا مأرب له من بعد، وقد عبَّر عن ذلك أحدهم، سمعه رجل يدعو قائلاً: "اللهم ارزقني ميتة كميتة عرفجة، فسأله: ومَن عرفجة هذا؟ وكيف مات؟ فقال: لقد أكل حملاً مشويًّا، وشرب ماءً نميرًا، ونام في الشمس فمات، مات شبعان، ريان، دفئان، فما أحسنها من ميتة".

 

وهذا الصنف هم شر الناس؛ لأنهم ليس لهم همم في طلب الدنيا ولا الآخرة.

 

2- الشهوات.. قبل فوات الأوان:

منهم مَن ارتفعت همته قليلاً، وحرَّكته الشهوات؛ ليتمتع في هذه الحياة قبل أن يموت، فكانت غايته أن ينال أقصى ما يستطيع من متع الحياة وشهواتها.

 

وهؤلاء عبَّر عنهم قول الله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)﴾  (آل عمران).

 

﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ (12)﴾ (محمد).

 

3- الإفساد.. والمفسدون في الأرض:

وهؤلاء تحركت همتهم في اتجاه آخر، وصارت غايته هي العلو والتمكن في الأرض، والسيطرة على رقاب العباد وهذه أقة الزعماء والقادة والملوك والحكام، وأصحاب النفوذ في كلّ زمان ومكان وما قاسته البشرية على أيدي هؤلاء خير شاهد:

 

﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ (205)﴾ (البقرة).

 

ثالثًا: غاية الإنسان المسلم:

المسلم الحق يختلف عن غيره من الناس في يقينه أن مصيره وحياته لا تنتهي بنهاية هذه الحياة الدنيوية، بل يوقن أن الحياة الحقة تبدأ بنهاية هذه الدنيا.

 

ومن ثَمَّ يجب أن يشغله هو مصيره في هذه الدنيا، والرسول الكريم حدَّد للإنسان مصيرين هما:

"إما أنه ليس بعد الموت من مستعتب، وليس بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار".

 

فأعظم غاية للمسلم وأخطر قضية هي أن يفوز في حياته الأخروية، وينجو من الخسران فيها:

 

﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)﴾ (العنكبوت).

 

وأن الفوز في الآخرة.. الفوز بدار الخلد والنعيم.. الجنان التي أعدها الله لمن رضي عنه من عباده ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)﴾ (البقرة).

 

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلك يكثر من الدعاء بقوله: "اللهم إني أسألك رضاك والجنة.. وأعوذ بك من سخطك والنار":

 

وكان صحابته- رضوان الله عليهم- حين يقتل أحدهم شهيدًا يصبح مسرورًا فرحًا "فزت ورب الكعبة".. من ذلك يتبين أن غاية المسلم الحقة هي الفوز برضا الله وجنته والنجاة من غضبه والنار.

 

سمات الغاية وخصائصها

1- غاية الأنبياء والمرسلين، فما كانت لهم غاية غيرها، وحسب المسلم أن يعمل لغاية، عَمل لها صفوة خلق الله من الأنبياء والمرسلين، وكانوا جميعًا يعلنون لأقوامهم ﴿وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)﴾ (هود).

 

﴿يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (51)﴾ (هود).

 

2- غاية طريقها شرعي ومحدد لا تقبل الوسائل المنحرفة والملتوية، والغاية الشريفة لا تقبل إلا الوسائل الشريفة والوسيلة الشريفة، لا تكون إلا إذا وافقت شرع الله تعالى ويُبتغَى بها الوصول إلى رضا الله تعالى ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)﴾ (الكهف).

 

3- غاية غالية وطريقها صعب لا ينالها إلا مَن بذل الجهد ودفع الثمن، وجد في السعي لها، وبذل نفسه وماله وحياته في سبيلها ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)﴾ (آل عمران)، ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾ (التوبة).

 

وقول الرسول: "ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة"، "حفت الجنة بالمكاره. وحفت النار بالشهوات".

 

4- غاية مضمونة التحقيق، تتحقق بمجرد السعي لها دون الارتباط؛ لذلك بتحقق أهداف دنيوية، فغاية المسلم تتحقق ويصل إليها؛ حتى ولو لم ينتصر الإسلام أو يمكن له في الأرض، وأمثلة ذلك كثيرة مثل صحابة رسول الله الذين استنشدوا على رمال مكة، ولم يشهدوا نصر الإسلام كالسيدة سمية وزوجها ياسر.

 

5- غاية ثابتة؛ فهي غاية المسلم الوحيدة والواحدة التي لا تتغير بتغير الظروف والأحوال، فهي غايته فتى وشابًا ورجلاً وكهلاً وطالبًا وعاملاً وفقيرًا وغنيًّا، لا يهدأ له بال حتى يصل إليها.

 

عندما سُئل الإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة.

 

6- غاية تتفق مع نواميس الكون كله، الكون كله خاضع لله، مسلم له، مسبح بحمده، متوجه إليه، فحين يعمل المسلم لتلك الغاية ينضم إلى هذا الكون الخاضع لله، ويتفق في حياته وحركته مع حركة الكون كله، والمخلوقات من حوله ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)﴾ (الحديد).

 

آثار وضوح الغاية

صاحب الغاية الحق هو مَن وضحت غايته في نفسه، واستقرت، ويراها بعين قلبه وبصيرته، كما رآها حارثة "كأني بعرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتعادون فيها".

 

1- الإخلاص وآثاره، يبتغي من عمله مرضاة الله عزَّ وجلَّ وحده، وتظهر آثار ذلك:

- يستوي عنده مدح الناس وذمهم.

- تستوي حالاته جميعًا سواء في السر أو العلانية.

- ينكر ذاته، ويخفي عمله، ويحب ألا يُنسب إليه شيء.

- لا يهتز عمله وجهده بما يحدث من نتائج.

- ثابت على دعوته، لا يتحوَّل عنها مهما طال الزمن وتغيرت الظروف والأحوال.

- يرفض المطامع والمغانم والأجر الدنيوي.

- يرتبط بالمبدأ والفكرة لا الأشخاص والأسماء.

 

2- المحبة والخوف والرجاء، فيمتلئ قلبه بحب الله حبًّا عميقًا، وهذا الحب يصحبه رجاء في ثواب الله، كما يصحبه خوف من غضب الله فتجده:

- صاحب جد في الطاعة والعبادة.

- خائفًا وَجِلاً مما بدر منه من الذنوب.

- مسارعًا للبذل والتضحية والجهاد.

- لا يستذل لأحد ولا تفارقه العزة ولو كان ضعيفًا وخاويًا.

 

3- اليقين والثقة والتوكل، فهو مليء بيقين من ربه، موقن بآياته ووعده ووعيده، فأورثه ذلك ثقة في الله ووعده، وتوكلاً عليه، وترى ذلك في مَن تجد فيه سمت الأمن والطمأنينة والسكينة الضجر والجزع.

 

آثار عدم وضوح الغاية والانحراف عنها

عدم استشعار القلب للغاية ومدى خطورتها؛ فتصبح غير واضحة، ترى آثار ذلك في:

أ- مَن يتغير القلب وتتسلل إليه الآفات وتستولي عليه الأمراض.

ب- عدم استقامة العمل واستمراره، وحرمانه التوفيق والسداد.

ج- التعثر والتساقط، وحرمان الثبات من بعد تولد الدعاوى المهلكة.

د- كثرة الأعذار والتهرب من المشاركة الجادة والتكاسل عن التضحية والبذل والجهاد.

 

نسأل الله أن يرزقنا العمل والإخلاص.. وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا وشأننا كله.

--------------

* محامٍ

[email protected]