لا يغيب عن مخيلتنا السياسية أن الاختلاف الإنساني طبيعي، وهو أدعى إذا كان الأمر يتعلق بشأن سياسي، ورغم ذلك فإن الموقف الرافض من التعديلات الدستورية يستحق اللوم والعتب، وتشبيه موقف المؤيدين للتعديلات بأنهم يقفون مع "ترقيع الدستور" هو تبرير للموقف "الهروبي" الذي يحدث الآن بين الرافضين؛ لأنه ما من أحد إلا وكان يعلم أن لجنة المستشار "البشري" كانت لجنة لتعديل (شروط الانتخابات)، وليست لجنة تعديل (صلاحيات الرئيس)، ولا هي لجنة (صياغة دستور جديد).. والمراجع للزخم السياسي أثناء وبعيْد عمل اللجنة لن يتحصل على اعتراض جوهري واحد، سواء على أشخاصها أو على المهمة الملقاة على عاتقها..

 

لكن يبدو أن عشرة أيام من الانتظار (هي فترة عمل اللجنة) جعلت الفرقاء السياسيين يفيقون من لحظة (التوحد الثوري) أو (المثالية الوطنية).. إلى النظر إلى واقع "التواجد الشعبي" لكل منهم.. وهذا قادهم إلى حقيقة قالوها بوضوح في البداية.. ثم تحرجوا من ترديدها ودخلوا في متاهات تفسير: "لماذا يرفضون التعديلات؟!".. ثم عادوا إلى الحقيقة الأولى مرة أخرى.. وتلك الحقيقة هي (الخوف من انفراد الإخوان بالمشهد السياسي)، وذرًّا للرماد في العيون فقد تحدثوا عن الخوف من عودة فلول النظام البائد إلى الانتخابات بما يملكونه من أموال ونفوذ.. رغم معرفة الجميع أن هذا من رابع المستحيلات؛ ولكنها (فزاعة) صغيرة لا بأس من وضعها بجوار (الفزاعة) الكبيرة وهي الإخوان!!.

 

ومما يدهشك أن السياسيين والمثقفين المعارضين للتعديلات وضعونا أمام ذات الأفكار الاستبدادية التي صكها نظام مبارك, وهي:

 

- أن القوى الوطنية غير مؤهلة للعملية الديمقراطية.

- أن الشعب سيتم خداعه سواء بسبب فقره وقبوله رشا الفاسدين، أو بسبب خضوعه لتأثير كلمة الدين، متجاهلين أن هذا الشعب هو الذي زحف بالملايين في أرجاء مصر.. ورغم ذلك فما زال المثقفون يتصورون أنهم أصحاب الثورة، بل إنهم زادونا سببًا فقالوا:

- إننا قمنا بثورتنا من أجل دستور جديد وليس من أجل ترقيع الدستور.

 

والحقيقة أن أصحابنا يعيدون إنتاج ما ادعاه مبارك ونظيف على الشعب، باعتباره قاصرًا أو غير مؤهل للديمقراطية، أو أنه يبيع كرامته ويزيف صوته ببضعة جنيهات.. والواقع أن المؤيدين للتعديلات هم الأكثر تمسكًا بوضع دستور جديد للبلاد؛ لأنهم الأكثر تمسكًا بنقل السلطة للمدنيين.. أما استغاثة المعارضين بالعسكريين ليبقوا في مواقعهم حتى تستعد القوى الوطنية في تشكيل أحزاب!!... أو تنظيم الصفوف!! أو.. أو.. فهي حجج تؤكد أن النظرة ضيقة.. تركت المصالح العليا للوطن، واستحضرت الأجندات الخاصة.

 

والأجندات الخاصة ليست حرامًا.. ولا عيبًا، ولكنها أتت مبكرة.. لقد كان الإجماع الوطني جارفًا، وكانت العقول كلها متفقة على شكل واحد (تقريبًا) للانتقال السلمي للسلطة، وهو:

 

1- تعديلات في شروط الانتخابات.

2- انتخابات برلمانية ورئاسية.

3- وضع دستور كامل للبلاد.

 

ولكن فجأة انشغل أصحابنا بلغز (رئاسية أم برلمانية؟!).. ولما لم يجدوه مقنعًا, انتقلوا إلى العيب على "المواد المعدلة"، ولما لم يجدوه مقنعًا انتقلوا إلى المناداة (بدستور جديد).
والحقيقة ليست في ذلك كله.

 

إنه الخوف مرة ثانية وعاشرة.. وبشكل مثير.. من الإخوان.

وموقف الإخوان لا يحتاج إلى تكرار.. طمأنة وراء طمأنة, ومبادرة وراء مبادرة.. وتنازل وراء تنازل.. حتى يظل الجمع ملتئمًا؛ ولكن بدلاً من تثمين موقفهم الإيجابي، يذهب البعض إلى أنه (موقف متعالٍ).. لأنهم يحددون نسبة يعلمون أن قدراتهم أقوى منها ليظهروا بمظهر المتواضع، وهذا لا يصلح في عالم السياسة!!.

 

وبدلاً من أن تدافع القوى السياسية عن موقفها الكاسر للإجماع، توجه اللوم إلى الإخوان بأنهم وافقوا؛ لأن هذا هو ما يتفق مع مصالحهم.. وهم أول من يعلم أن الإخوان جاهزون في كل الأحوال، سواء الآن أو غدًا.

 

وإذا كانت جاهزية الأحزاب والقوى السياسية بعد عام أو عامين ستزداد، فليس متصورًا أن تتوقف جاهزية الإخوان.. إنما ستتضاعف أيضًا.

 

وليس متصورًا أن السلوك الشعبي سيتغير؛ لأن مهلة العام أو العامين لن تعالج الفقر الذي يجعل الشعب يمد يديه كما يزعمون.. كما أن المهلة لن تعالج "سذاجة الشعب" الذي ستغويه (كلمات الدين)!!.

 

كما أن إخواننا لم يطرحوا خارطة جديدة للسير على نهجها, ولم يوضِّحوا كيف ستولد الجمعية التأسيسية للدستور الشامل, فإن كانت بالانتخاب فإنه سينطبق عليها نفس مشاكل عدم الجاهزية, وإن كانت بالتعيين فقد رفضوا الإرادة الشعبية التي تقرها التعديلات, وقبلوا بالانتقاء الذي ترفضه الديمقراطية, وقس على ذلك كل الخطوات التالية.

 

والمؤكد أن استمرار العسكريين في الحكم ليس هو ما سينقذ مصر ويحوِّلها إلى دولة ديمقراطية.. كما وأن قبول المخاطرة بوضع الدولة في يد العسكريين هي مفاجأة بكل المقاييس.. ويصعب قبولها من دعاة الدولة المدنية!.. حيث تتفاخر كل الثورات الناجحة التي صنعت ديمقراطيات راسخة.. أن الجيش لم يكن حاضرًا في قيادة المشهد السياسي.. وإنما كان حاميًا لها.

 

ولقد كانت مطالب ثورة 19 الرئيسية هي رفع الحماية الأجنبية عن مصر، وطرد الاحتلال.

 

ولما كان الإجماع الوطني والسياسي قويًّا في موقف رفع الحماية استطاعوا- فعلاً- رفعها في خلال سنتين، ولكن لما اختلف السياسيون في الموقف من قضية الاحتلال، فشلت الثورة تمامًا في إزالته.

 

فعلى القوى الوطنية أن تعلم أن الإخوان شريك ثورة.. وشريك كفاح.. وليس تهديدًا لوجودهم.

 

وعلى الإخوان أن يكثفوا العمل السياسي ويستمروا في التضحيات.. التي تعيد التوحد في اللحظات الفارقة.

 

إنها دعوة جادة إلى مراجعة المواقف؛ لتثبيت (روح الثورة) قبل أن تسهم النظرة المصلحية الضيقة في إزهاق روحها.

 

-------------

* [email protected]