"الإسلاموفوبيا" من المصطلحات الحديثة التداول نسبيًّا في الفضاء المعرفي المعني بصورة خاصة بعلاقة الإسلام بالغرب، وقد تم نحت المصطلح الذي استعير في جزء منه من علم الاضطرابات النفسية للتعبير عن ظاهرة الإرهاب أو الخوف المرضي من الإسلام.

 

وهي في الواقع ظاهرة قديمة جديدة، قديمة قدم الدين الإسلامي نفسه، وإن كانت قد تصاعدت حدتها في عالم اليوم، وبخاصة في دول الغرب بعد التفجيرات الشهيرة التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، التي أسندت إلى تنظيم القاعدة.

 

هذا ولا تعد تلك الظاهرة حكرًا على مجال العلاقات بين الإسلام والغرب كما قد يتبادر إلى الذهن، بل إنها تمتد لتطال رقعة العالم الإسلامي نفسه أيضًا، إذ إن ظاهرة الخوف المرضي من الإسلام قد نشأت في الأصل بين أوساط العرب واليهود في جزيرة العرب، وثمَّة من المؤشرات؛ ما يؤكد استمرار حضورها على ساحة الأرض العربية والإسلامية حتى الآن. 

 

 أسباب الظاهرة:

أولاً: احتشاد التاريخ بالكثير من وقائع الصراع بين الإسلام والغرب:

يمكن القول إن الفتوحات الإسلامية التي بدأت منذ عهد الرسول (عليه الصلاة والسلام)، وتوسعت حدودها وآفاقها على امتداد قرون طويلة لاحقة، قد شكلت بما ارتبط بها وتمخض عنها من دحر جحافل الروم وتهديم معاقل وجودهم في المناطق التي اكتسحتها راية الإسلام، أولى وأبرز الخبرات المؤلمة التي تعرض لها الغرب في علاقته بالعالم الإسلامي، تلك الخبرات التي غرست بذور الخوف من الإسلام في ذهنيته، وجعلته يطور نزوعًا مرضيًّا يحكم تفاعله مع ذلك الدين وأتباعه.

 

ويزخر التاريخ بسلسلة لا تكاد تنتهي من الخبرات غير السارة التي اتخذت طابعًا دمويًّا في كثير من الحالات، التي كرست النظرة المرتابة، بل العدائية، من جانب الغرب- وهو الوريث الشرعي للإمبراطورية الرومانية- حيال الإسلام وأهله.

 

 إذ لم تتوقف تلك الخبرات المؤلمة عند حدود معركة اليرموك المشار إليها بكل تأكيد، بل تعدتها إلى سلسلة طويلة من مواقف المجابهة العنيفة، التي سجلها التاريخ في العديد من المعارك الحاسمة، التي جسّد بعضها، أو كاد، تهديدًا جديًّا للعالم الغربي، كفتح الأندلس سنة 91 هـ، ومعركة بلاط الشهداء (لابواتيه) سنة 114هـ، التي لو انتصر المسلمون فيها لدخل الإسلام إلى باريس نفسها، وفتح القسطنطينية على يد العثمانيين سنة 857 هـ.. إلخ قائمة لا تكاد تنتهي من وقائع الصراع الدامي بين الجانبين.

 

ويبدو أن التفاعل المباشر لأبناء الغرب مع المسلمين لعقود طويلة، سواء في سياق احتلالهم بعض الديار الإسلامية إبان ما عرفت عند بعض المؤرخين بالحروب الصليبية، أو في إطار استفادتهم عن طريق رحّالتهم وطلابهم من النهضة العلمية والحضارية التي ازدهرت في كثير من مدائن العالم الإسلامي، يبدو أنه لم يكن كافيًا للنجاح في تبييض الصورة القاتمة التي رسموها في أذهانهم تجاه الإسلام وأتباعه، بوصفه دينًا دمويًّا لا يمكن أن يقترن إلا بالعنف والتخلف والإرهاب أو هكذا أرادوا أن تستمر الصورة تحقيقًًا لرغبة الانتقام الكامنة في نفوسهم.

 

ثانيًا: الجهل بالإسلام:

وفقًا لمقولة دارجة لا تخلو من الصحة، يميل الإنسان في العادة إلى معاداة ما يجهل، بوصفه يشكل خطرًا غامضًا يحسن الاحتراس منه وتجنبه.

 

 وهذا ما قد يفسر خوف الكثيرين من الإسلام وميلهم إلى معاداته والنفور منه، حتى بين بعض أبناء المسلمين أنفسهم، الذين يملكون معرفة سطحية بالإسلام!.

 

 والواقع إن هناك جهلاً صارخًا بحقيقة الإسلام، وبخاصة في العالم الغربي، الذي يستقي معلوماته عن الإسلام من مصادر قد تفتقر في كثير من الحالات إلى الموضوعية والنزاهة والتجرد، أو الإحاطة الكافية بحقيقة الإسلام وجوهره.

 

 فالمناهج المدرسية وحتى الجامعية في العالم الغربي، ما تزال مثقلة بكم هائل من المعلومات المغلوطة والمضللة عن الإسلام، التي تعود في جذورها إلى نتاجات المدرسة الاستشراقية، إحدى الأذرع التقليدية الرئيسة للاستعمار الغربي، التي يوجد من الشواهد ما يؤكد انطلاقها من مرجعيات مصطبغة بروح الحروب الصليبية، لا ينقصها الكثير من التعصب والتحيز وتزييف الوقائع ولَيِّ أعناق الحقائق؛ لإثبات مزاعم وافتراضات قبلية عارية عن الصحة.

 

ويشكل الجهل بالإسلام وحمل تصورات مغلوطة عنه، مع ما يترتب عن ذلك من الحيلولة دون تشكل أرضية ملائمة لفهمه وتفهمه والتواصل الإيجابي مع معتنقيه، معلمًا بارزًا من معالم الحياة في العالم الغربي.

 

ثالثًا: تضارب المصالح واختلاف المنطلقات القيمية:

على الرغم من أن الجهل بالإسلام قد يشكل سببًا أساسيّا للخوف منه ومعاداته، إلا أنه ليس السبب الوحيد بكل تأكيد.

 

 فقد سجل التاريخ أن معرفة الكثيرين بالإسلام لم تحل دون الخوف منه ومناهضته، بل ربما يمكن القول إن تلك المعرفة قد كانت المدخل الرئيس لاتخاذ موقف سلبي منه.

 

 فقد جاء الإسلام ليشكل مشروع رؤية تجدد ما دأبت تعاليم السماء على الدعوة إليه والمناداة به مذ وجد الإنسان على الأرض، رؤية تقوم على تدمير معاقل التظالم بين البشر، ونشر قيم العدالة والأخوة والمساواة والفضيلة فيما بينهم، وبطبيعة الحال، كان من المحتم أن يصطدم ذلك المشروع بمصالح كثير من الفئات الانتهازية التي كانت تحرص على استمرار الأوضاع المختلة القائمة، بكل ما فيها من استغلال وظلم واعوجاج.

 

والواقع أن المنطق ذاته يمكن أن ينطبق على الحالة الغربية اليوم، فمن المعروف أن الغرب يتبنى الكثير من السلوكيات الخاصة به، التي ترتبط في كثير منها بالنظام الرأسمالي ومبادئه البراجماتية الساعية إلى تعظيم الربح واللذة والمنفعة الخاصة.

 

 وتدخل في الوقت نفسه ضمن دائرة الحريات الاجتماعية والاقتصادية المعترف بها هناك من قبيل: حرية المقامرة، وتناول الكحول، والاشتغال بالربا، وتقنين ممارسة البغاء والعلاقات الجنسية المثلية، والسماح بالعلاقات الجنسية خارج إطار الزوجية.. إلخ.

 

 وبكل تأكيد، لا يمكن أن تحظى مثل تلك السلوكيات بمباركة الدين الإسلامي، الذي يعدها ومثيلاتها من المحرمات التي يستدعي اقترافها التجريم والعقاب، ومن ثَمَّ، فإن من الطبيعي أن يجد كثير من أبناء العالم الغربي في الإسلام وتعاليمه تهديدًا صارخًا لما يعتبرونها حريات أساسية، لا ينبغي المساس بها أو التفريط فيها.!  وتتداخل التعارضات المصلحية والحضارية لترسيم شكل العلاقة بين الإسلام والغرب إلى حدٍّ بعيد، فبينما يمكن الإقرار- إلى هذا القدر أو ذاك- بأن الصراع الذي يحكم علاقة العالم الغربي بالإسلام يستند في جزء منه إلى اختلافات حضارية عميقة ضاربة بجذورها في التاريخ، كما تزعم نظرية (صراع الحضارات) الشهيرة لصاحبها المنظر الأمريكي (صامويل هنتجتون)، فإن من الممكن أيضًا القول إن جزءًا مهمًّا من ذلك الصراع يرتكز إلى تضارب المصالح بين الإسلام والغرب، بحيث يبدو هذا الأخير على درجة من الاستعداد للقبول بإسلام (معتدل) يضمن مصالحه السياسية والاقتصادية ولا يشكل تهديدًا لها.

 

رابعًا: الخلط بين الدين الإسلامي وواقع المسلمين:

ليس من الخافي على أحد أن الأمة الإسلامية تعاني منذ قرون عديدة واقعًا مأزومًا على مختلف الأصعدة والمستويات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهو ما ينعكس في وقوف تلك الأمة في ذيل سائر أمم الدنيا على صعيد الإسهام الحضاري والمشاركة في ارتقاء الإنسانية وتقدمها.

 

 فعلى المستوى السياسي، عصفت الحروب والنزاعات المسلحة وما تزال تعصف بأرواح الآلاف من أبناء العالم الإسلامي كل عام، كما هي الحال في كلٍّ من فلسطين والعراق وأفغانستان والسودان والجزائر على سبيل المثال.

 

 وتبدو الدول الإسلامية عاجزة عن فعل الكثير من أجل إيقاف تلك الصراعات أو الانتصار فيها أو تسويتها، كما ما يزال العديد من الدول الإسلامية يخضع بشكل أو بآخر لقوى أجنبية تصادر حريتها وتحد من إمكانات استقلالها الفعلي.

 

وعلى الصعيد الاقتصادي، تشير الإحصائيات إلى أن أكثر من نصف مليار مسلم يعيشون تحت خط الفقر، وهذا يعني أن أكثر من ثلث سكان العالم الذين يعيشون تحت مستوى خط الفقر هم من أبناء العالم الإسلامي، على الرغم من كل ما تتمتع به دول ذلك العالم من ثروات بشرية وطبيعية هائلة.

 

 الأمر الذي يوجه الأنظار إلى ما تكابده تلك الدول من استشراء الفساد وسوء الإدارة واختلال العدالة في توزيع الموارد والثروات، ليس هذا فحسب، بل إن دولاً إسلامية عديدة قد اجتاحها شبح المجاعات وافترس وحش الجوع مئات الآلاف من أبنائها، كما جرى في كل من النيجر والصومال والسودان.

 

وفي المجال الاجتماعي، يمكن الحديث بوجه عام، عن معاناة دول العالم الإسلامي تفاوتات طبقية صارخة تتفاقم حدتها عامًا بعد آخر، فضلاً عن تصدع بناها المؤسسية التقليدية مع العجز عن إيجاد بناءات حديثة قادرة على الإنجاز الناجح الفعال، وانحطاط مكانة المرأة، وتهميش دور الشباب، وضعف الاهتمام بالأطفال، ناهيك عن اهتزاز المنظومات القيمة وتخلخلها تحت وطأة القيم الغربية الغازية.

 

وعلى الصعيد الثقافي، يبدو العالم الإسلامي منقطعًا بصورة شبه تامة عن الثورات المعرفية والمعلوماتية والعلمية التي يشهدها العالم، فيبدو الأقل إسهامًا في تلك الثورات، سواء على مستوى الإبداع أو التطوير، ليغدو في أفضل الحالات مستهلكًا نهمًا، وبصورة استعراضية فجة، لما تنتجه تلك الثورات من تطبيقات وتقانات!.

 

إزاء الواقع المتردي الذي يتخبط فيه العالم الإسلامي، ومع أخذ الجهود الصهيونية والاستعمارية في تعميق ذلك الواقع وإبرازه وتضخيمه بعين الاعتبار، يغدو من الطبيعي انبعاث حالة من المماهاة التلقائية بين الإسلام من جهة، والفقر والتخلف من جهة أخرى؛ ليتم تحميل الإسلام جرائر ضعف أبنائه وتخلفهم.

 

 وعليه؛ يبدو أنه من العسير أن يتعاطف الغربي الذي لا يعرف إلا صورة مشوهة عن الإسلام مع هذا الدين، بل إن من الطبيعي أن يتخذ منه- وهو يظنه سببًا رئيسًا لتخلف أرجاء واسعة من العالم ـ موقفًا سلبيًا عدائيًّا، ويولي جزءًا من اهتمامه لمحاربته واستئصال شأفته.

 

خامسًا: تبني صورة نمطية سلبية للمسلمين:

في الأصل، تتمتع المبادئ والنظريات، وبخاصة العقائدية، بطابع مثالي يتيح هامشًا معقولاً من الانفصال بينها من جهة، وأتباعها وتطبيقهم لها على أرض الواقع من جهة أخرى.

 

 إلا أنه وفي كثير من الأحيان، يتم الخلط بين الأفكار ومعتنقيها، فيتم عزو ما يقترفه هؤلاء من أخطاء وتجاوزات إلى الأفكار التي يزعمون تبنيها، وهذا يظهر واضحًا تمامًا في حالة الإسلام والمسلمين، إذ يتم تحميل الإسلام مسئولية السلوك غير السوي الذي يصدر عن بعض المسلمين.

 

 وبالإضافة إلى الجهل بحقيقة الإسلام، كما سلفت الإشارة، فإن من مصلحة الكثيرين من أنصار التوجهات الاستعمارية والصهيونية استغلال السلوك السيئ للمسلمين للنيل منهم ومن دينهم، وإثبات صحة الصور النمطية المرتسمة في أذهان الكثيرين من أبناء الغرب عنهم.

 

 وبتسليط الضوء على تلك الصور النمطية الماثلة في الذهنية الغربية عن المسلمين، التي تطورت عبر قرون طويلة ظللتها أجواء التصارع والتفاعل المتوتر غير المتوازن بين الجانبين، فإنها تسقط على الشخصية المسلمة كمًّا هائلاً من الافتراءات والخيالات المريضة، فتصورها بالجشع والنهم والغباء والسفه والمكر واحتقار المرأة والتكالب على الشهوات.. إلخ.

 

وقد لعبت السينما العالمية ووسائل الإعلام المغرضة التي تخضع لسيطرة واضحة من جانب الدوائر الصهيونية في العالم دورًا أساسيًّا في ترسيخ معالم تلك الصور النمطية وتضخيمها وتعميمها، حتى غدت بمثابة الحقائق الثابتة التي لا تحتمل النقاش، التي تحكم تعاطي كثير من أبناء الغرب مع الإسلام والمسلمين.!

 

وللحقيقة، فقد لعب بعض أبناء المسلمين أنفسهم دورًا لا يستهان به في تصديق تلك الصور النمطية الشائهة، وذلك عن طريق سلوكهم المتخلف والمنحرف أثناء تجوالهم في عواصم الدنيا، مقدمين بذلك الأنموذج الأسوأ عن الشخصية المسلمة، ومن ثَمَّ عن الإسلام نفسه.!

 

كما كان للتطبيق المتزمت للإسلام، الذي يركز على الشكل على حساب الروح والمضمون، من جانب بعض أنظمة الحكم التي تزعم اتخاذ الإسلام منطلقاً للتشريع فيها، نصيب في عملية الإساءة إلى الإسلام وتخويف الناس منه؛ إذ أظهرته تلك الأنظمة وكأنه جلاد قاسٍ متحجر يطارد الناس لسلب حرياتهم وحرمانهم من كل مظاهر البهجة، وإجبارهم على إتيان الفرائض والطقوس الدينية على الرغم منهم!.

 

وجاءت التفجيرات المدوية على أهداف مدنية في عدد من البلدان الغربية، كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وإسبانيا، والإسلامية أيضاً، كالسعودية ومصر وباكستان والأردن، التي تبنتها جماعات تزعم انتماءها للإسلام، كتنظيم القاعدة بتفرعاته؛ لتصب في تيار تصعيد المخاوف من الإسلام، ولتعطي لأعدائه المزيد من المبررات لمحاربته وتضييق الخناق عليه، بحجة مسئوليته المباشرة عن توليد الإرهاب والإرهابيين.

 

ظاهرة "الإسلاموفوبيا" في الوطن العربي:

مع صدمة احتكاكه بالغرب قبل قرابة القرنين، بات المجتمع العربي يعاني حالة من الانفصام والانشطار الحضاري، تتجسد وعلى شتى المستويات في سائر أنساق حياة ذلك المجتمع وتفاعلات أبنائه، فبات أسير التخبط والاضطراب والتصارع بين تيارين رئيسين يتنازعان الساحة:

 

 تيار إسلامي يعبر عن الفهم الذي حمله المسلمون للإسلام منذ وجد، الذي يدعو إلى جعل الشريعة مرجعية حاكمة وموجهة لسائر شئون المجتمع.

 

 وتيار علماني ينادي بإقصاء الدين عن التدخل في مسائل إدارة المجتمع وتسيير أموره، ناظرًا إليه- في أفضل الأحوال- باعتباره شأنًا شخصيًّا بين الإنسان وربه، بما يذكر، إلى حدٍّ بعيد، بوجهة النظر السائدة عن طبيعة الدين في المجتمعات الغربية.

 

وبطبيعة الحال، وبحكم استلهام منطلقاته ومقولاته المرجعية الرامية إلى تحييد المكون الديني من معين التجربة الغربية، ومحاولة إسقاط تلك التجربة على الواقع الإسلامي، دون الأخذ بعين الاعتبار مواطن الاختلاف ومواضع الخصوصية بين التجربتين الإسلامية والغربية، لم يكن للتيار العلماني إلا أن يتورط ـ بصورة واعية أحيانًا وغير واعية أحيانًا أخرىـ في تبني كثير من المقولات التي يتبناها الغرب حيال الإسلام.

 

ومن هنا يمكن تفسير معاناة أصحاب الاتجاه العلماني في الوطن العربي من ظاهرة الخوف المرضي من الإسلام، التي لا تتردد في التعبير عن نفسها، بصورة عدائية أحيانًا، كلما نجح الاتجاه الإسلامي في إحراز نصر سياسي هنا أو هناك، كما شهدنا عند حصول حركة الإخوان المسلمين في مصر على نسبة، معتبرة من مقاعد المجلس التشريعي في الانتخابات التي أجريت في شهر كانون الأول من عام 2005م

 

وبعيدًا عن اللجوء إلى توظيف نظرية المؤامرة، والافتراض بأن بعض أرباب الاتجاه العلماني ومروجيه يرتبطون بعلاقات نفعية- بصورة غير واعية أحيانًاـ مع بعض الدوائر الغربية المشبوهة، فإن المرء لا يحتاج إلى كثير من التدقيق كي يلاحظ قدرًا كبيرًا من الالتقاء بين المخاوف التي يحملها العلماني في الوطن العربي من الإسلام، وتلك التي يتم تداولها على نطاق واسع في الأوساط الغربية، وكأن الأولى مستمدة في أصلها من الثانية!.

 

 فالإسلام في وعي كثير من العلمانيين العرب، بوجه عام، عصي على الانسجام مع الديمقراطية ومقتضياتها، وبعيد عن الإقرار بحقوق المرأة ومساواتها بالرجل، وقصي عن احترام حقوق الأقليات غير المسلمة، وقاصر عن امتلاك أو تطوير برامج عملية ناجعة للتعامل مع قضايا العصر.. إلخ.

 

الخاتمة:

معقدة العناصر ومتشعبة الأبعاد ومتداخلة الارتباطات وعميقة الآثار هي ظاهرة الخوف من الإسلام، ومن ثَمِّ فإن التعامل مع تلك الظاهرة يستوجب تضافر كل الجهود الممكنة في العالم الإسلامي من أجل الخروج بإستراتيجية شاملة، ترتقي بإحكامها وتماسكها وإحاطتها إلى مستوى تلك الظاهرة البالغة الخطورة، التي تقف عقبة جدية أمام تمكن دول ذلك العالم من إقامة علاقات إيجابية سليمة، ليس مع بقية دول العالم، وبخاصة الدول الغربية، وحسب، بل فيما بينها ومع أبنائها أيضًا.

 

غير أن الخروج بتلك الإستراتيجية المنشودة يستوجب العمل على تحديد معالم المنظومة المرجعية المتماسكة والموحدة التي ستنظم سبل التعامل مع تلك الظاهرة، وتضمن الانطلاق في ذلك من صف متضامن موحد.

 

إذ إن من المستبعد أن يتمكن العالم الإسلامي من مجابهة وعلاج ظاهرة خوف الآخر من الإسلام، ما زال هو نفسه يختبر الظاهرة نفسها في ربوعه!.

 

 وعلى الرغم من إقرارنا بصعوبة الاتفاق على مثل تلك المرجعية المتوخاة، إلا أننا نزعم أن الخطوة الأولى إلى ذلك تتمثل في وجوب الإقرار الفعلي من جانب المجتمعات الإسلامية بأن الإسلام، بثوابته وأصوله العامة، هو الإطار العريض الذي يحتضن تلك المرجعية ويحتوي قواعدها.

 

 إذ يغدو انتساب تلك المجتمعات إلى الإسلام واعتبارها (مجتمعات إسلامية) محض لغو لا طائل منه، ما لم يشكل الإسلام بالفعل الأرضية التي تنطلق منها في تعريف نفسها وتحديد هويتها الحضارية، مقارنة بالهويات الحضارية الأخرى.

 

إن إقرار أبناء المجتمع العربي الإسلامي بأنهم أبناء حضارة عربية إسلامية حقًّا، لا يعبر، فيما هو مفترض، عن مجرد شعارات مثالية خالية من الدلالة، يتم ترديدها بلا روح في الخطب والمؤتمرات.

 

 بل ينبغي أن يعبِّر عن هوية حقيقية تتم ترجمتها إلى أفعال ملموسة، تقضي بأن تكون ثوابت تلك الحضارة وأصولها وقواعدها الكلية هي الإطار الذي يستلهم منه أبناء تلك الحضارة رؤيتهم للواقع وسبل فهمهم له وتعاملهم معه، وهذا هو السبيل الأمثل، فيما نزعم، لإبراز الهوية الحضارية المتميزة للإسلام، وصونها من أخطار التهميش والتشويه.

 

وتشكل تلك الثوابت والأصول والقواعد الأنموذج المرجعي الذي يحتكم إليه أبناء الحضارة في تشكيل نظرتهم إلى الوجود وموقفهم منه، وفي إسباغ المعاني والدلالات على موجودات هذا الكون، بما يتصل بذلك من مسائل بالغة الأهمية، تتعلق بمفهوم الإنسان نفسه، وأسباب وجوده، ومواصفات دوره الحياتي، وعلاقته بنفسه وبالآخر وبالطبيعة.. إلخ.

 

ويجسد ذلك الأنموذج حضورًا واضحًا يحل في سائر أنشطة المجتمع الذي يقر بتبنيه، فنستطيع تحسس آثاره جلية في كلِّ بعد من أبعاد الحياة في ذلك المجتمع، ونراه علامة فارقة مميزة في الآداب والفنون وطرق العيش ووتائر التفاعل والسلوك.

 

 ومن هنا تظهر إمكانية الحديث عن حضارات متمايزة، يصدر كل منها عن أنموذج موجه له سمات خاصة، تضفي عليه التميز والاختلاف عن بقية الحضارات، وتمنحه هويته وشخصيته المتفردة.

 

والإسلام، وهو الذي وقف خلف صنع حضارة بالغة الفرادة والقوة والرقي والتميز، لم يأت ليكون مجرد دين روحاني لا شأن له إلا بأمور الآخرة والاعتكاف في انتظارها.

 

 بل جاء ليكون دينًا شموليًّا-  ليس بالمعنى السلبي للشمولية الذي أثر عن الأنظمة الاشتراكية الآفلة- ينظّم لأتباعه كل جوانب حياتهم: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والروحية، والحضارة المبدعة التي تشكلت في رحم ذلك الدين شاهدة على ذلك. !

 

وعليه؛ فقد يكون من أفضل السبل لمواجهة ظاهرة الخوف من الإسلام بعث الحياة في الجوانب الحضارية لذلك الدين، عبر إبراز أبعاده المشرقة وتجليتها للعالم، وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، انطلاقاً من منطق المبادرة الفاعلة الواثقة بقوة هذا الدين وإمكاناته الرحبة غير المتناهية، وليس من منطق ردة الفعل الاعتذارية الخجولة، الذي يحكم حتى الآن تفاعل العالم الإسلامي مع معظم التحديات التي تعترض سبيل تقدمه!.

 

إن هناك حاجة ملحة للتعرف إلى الإسلام، من جانب أبنائه أولاً، تمهيدًا لتعريف العالم به.
 وهذا يتطلب جهودًا حثيثة صادقة من لدن الحكومات الإسلامية؛ لتعريف الناس بجوهر دينهم وتعاليمه الحقيقية، مع ما يرتبط بذلك من وجوب وضع تلك التعاليم موضع التطبيق الفعلي، سعيًا إلى تجاوز حالة النفاق والتذبذب والتنافر المعرفي التي تعيشها المجتمعات الإسلامية، نتيجة التأرجح بين الإيمان بمبادئ عقدية وعدم القدرة على الالتزام السلوكي بها.!

 

وبكل تأكيد، فإنه ليس من الحكمة إحجام العالم الإسلامي عن تعريف أمم الأرض بالإسلام إلى أن يحسم مشكلاته الداخلية المتشابكة المتعلقة بهذا الدين.

 

 بل إن من الحكمة المسارعة إلى بذل قصارى الجهود الممكنة لتقديم الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة إلى أكبر عددٍ ممكن من الناس على امتداد المعمورة.

 

 إذ تثبت الآلاف المؤلفة من الذين يدخلون في الإسلام كل عام في أرجاء الأرض- على الرغم من الواقع المزري للمسلمين ـ أن البشرية التائهة تتعطش إلى التفيؤ تحت ظلال الدين الذي ارتضاه الله خاتمًا للأديان والرسالات، بعد أن أضناها اللهاث في بيادي العبثية والعدمية والضلال.

 

وأخيرًا وليس آخرًا أقول أنه يجب ألا يزعجنا هذا الهجوم المنظم الذي يشنه غلاة العلمانيين والليبراليين على التيار الإسلامي عقب كل نجاح يحققونه على الأرض، خاصة بعد أن اكتسبوا المشروعية القانونية بعد ثورة 25 يناير.

 

 وهم بحكم قواعدهم الشعبية وحياتهم مع الناس ومشاركتهم همومهم وأحلامهم يتمتعون بمصداقية كبيرة لا يقدر عليها التيار العلماني الذي هو تيار نخبوي بالأساس ليست له قواعد شعبية ويرتبط في وعي الجماهير بمعاداة الدين وهو أمر يثير نفور الجماهير منهم.

 

 وبالتالي فإن التيار الإسلامي، وعلى رأسه جماعة الإخوان يكتسبون كل يوم أرضًا جديدة؛ ما يثير حفيظة التيار العلماني سواء منهم الليبراليون أو اليساريون فلا يملكون إلا خلق الأكاذيب ونشر الشائعات ومحاولة توظيف الخطاب غير المنضبط لبعض الإسلاميين في تشويه الصورة، وهم يستغلون المنابر الإعلامية التي يسيطرون عليها في هذه المواجهة غير الشريفة والتي يوظفون فيها كل ما هو متاح بصرف النظر عن المصداقية أو شرف الكلمة.

 

واستكمالاً للفائدة فإنني أنبه على بعض الإستراتيجيات التي يتبعونها:

1- متابعة كل ما يصدر عن رموز التيار الإسلامي وتوظيفه في تشويه الصورة، وهذا يقتضي من التيار الإسلامي وضع مقاييس صارمة فيمن يتصدى للإعلام، فالأمر يجب ألا يتصل بمكانته في الدعوة، وإنما في صياغتة خطاب منضبط  يعبر عن المشروع الإسلامي.

 

2- الحرص على توظيف وسائل الإعلام الجماهيرية في محاصرة التيار الإسلامي؛ من خلال استضافة بعض الإخوان الطيبين الذين لا يحسنون الجدال ولا عرض وجهة نظر التيار الإسلامي وهذا يتطلب تنسيقًا إعلاميًّا؛ بحيث يتم ترتيب من يظهر إعلاميًّا بعد أن يخضع لتدريب مكثف للتعامل مع وسائل الاتصال الجماهيرية، فالأمر أصبح لا ينفع فيه إلا المحترفون.

 

3- الرصد الدقيق لوتيرة الهجوم على التيار الإسلامي والتي تترافق عادة مع كل إنجاز جديد على الأرض، وهذا يتطلب نوعًا من العمل المؤسسي المنظم، فالقناة الفضائية والصحف السيارة والمواقع الإلكترونية وغيرها مطلوبة لهذه الحرب الإعلامية، ويجب أن يتم العمل فيها بوتيرة متسارعة؛ لأن التيار العلماني يستغل ضعف جهازنا الإعلامي في هذه الحرب الشرسة.

4- يجب أن نحسم أمرنا في التمييز وليس الفصل بين ما هو دعوي وما هو سياسي؛ بحيث ينفرد بالجزء السياسي المتفرغون للعمل الحزبي الذي من طبيعته الصراع والتنافس خاصة في البيئة الموبوءة التي نعيشها أما رجال الدعوة فهم بحكم عملهم يجب أن يكون خطابهم للجميع وبالحكمة والموعظة الحسنة وينصرفوا تمامًا عن العمل السياسي الذي لا يشغل من مشروعنا الإسلامي إلا قرابة الـ10% ولكنه يعمل في الأضواء ولذلك يبدو أكبر من حجمه.

 

5- إن التيار العلماني يحاول أن يجرنا إلى معارك جانبيه تستنفد طاقتنا وتؤثر على إنجازاتنا على الأرض، وهو ما يجب أن نتنبه له ونحرص على توجيه خطابنا بالأساس إلى جماهير شعبنا التي نثق فيها وتثق بنا ولا يكون خطابنا اعتذاريًّا كما يبدو مع بالغ الأسف، وكأننا نعتذر عن بعض ما نؤمن به، كما حدث أخيرًا عندما حرفت بعض التصريحات عن رؤيتنا في تطبيق الحدود فالخطاب الصادر عنَّا لم يكن منضبطًا، ما جعلهم يستغلون الثغرات الموجودة في الحديث.

 

6- أن التيار العلماني وهو في غالبيته تربى على الفكر الغربي بيمينه ويساره يحاول بخبث ودهاء ضرب المشروع الإسلامي من خلال بعض التيارات التي لم تعِ جيدًا دروب ومسارات وأدوات العمل السياسي؛ ما يستوجب علينا أن نعمل على توحيد الفصائل الإسلامية على أجندة مشتركة.

 

 وهذا في رأيي هو واجب الوقت، والإخوان بحكم خبرتهم الطويلة في العمل السياسي مطالبون بقيادة هذا التوجه، ومن ناحية أخرى فيجب ألا نتورط في الهجوم على إخواننا الذين لا يملكون نفس خبرتنا ونسدي لهم النصيحة بآدابها التي تعلمناها في مدرسة الدعوة.

 

7- يجب أن نحرص على استيعاب الشباب وإفساح صدورنا للاستماع له واحتوائه، فالتيار العلماني يسعى حثيثًا لاجتذاب الشباب بعيدًا وإقناعه بأن شيوخ الدعوة لا يتوافقون مع العصر وحضور د. محمد مرسي المؤتمر الذي عقده الشباب في مدينة 6 أكتوبر خطوة حكيمة يجب أن تتحول إلى سياسة عامة، فيجب ألا نخشى من المناقشة العلنية لأمورنا؛ لأن الإخوان الآن شأن عام واعترافنا بحاجتنا للتطوير يرفع من مصداقيتنا.

 

وأخيرًا فإنني أقول كما قال إمامنا المؤسس الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله إنه كلما زاد الهجوم علينا أدركنا أننا نتحرك في الاتجاه الصحيح والزمن يعمل لصالحنا بإذن الله، فقد حققنا إنجازات كثيرة وكبيرة ونحن نعمل تحت الحصار والملاحقة الأمنية، فما عذرنا وقد فتحت لنا الأبواب؟!

 

أدعو المولى عزَّ وجلَّ أن يثبتنا في مرحلة المحنة وأدعوه سبحانه أن يحمينا من أنفسنا فأنا أخاف من الدنيا ومن الأضواء، فلنعمل كما تعودنا ولنحرص أن نقدم عملنا بين يدي الله عزَّ وجلَّ، فما أضيع أن يعرفنا الناس وينسانا الله فلنحذر يا إخوان من عذاب الاستبدال.

اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد!!