كانت كلمة العمل لله والوطن هي من قبالة السخرية التي يتندر بها المصريون في حياتهم اليومية؛ فكنت عندما تعطي عاملاً مثلاً أجرًا أقل مما يريده كان يقول لك: "هو أنا هشتغل يعني.. لله والوطن"!!

 

كان الناس لا يهمهم إلا أنفسهم في حالة من الأنانية الجماعية والاجتماعية.

 

كانت كلمة العمل لله والوطن في العهد البائد هي من قبالة السخرية بسبب تلك الثقافة والأخلاق السيئة التي اكتسبها الشعب المصري عبر تاريخ من الاستبداد والاستعباد التي غيَّرت كثيرًا في قناعات ومفاهيم وثقافات الناس, تعلم الناس ثقافة القرش والهبش, والجنيه والكارنيه, تعلم الناس النفعية والأنانية حتى قلنا إن الخير قد ذهب من بين الناس، ولكن كنا نتذكر قول رسولنا الكريم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة" فتطمئن قلوبنا.

 

فكانت بداية ثورة 25 يناير وكان الهتاف الأول في المظاهرات (تغيير.. حرية.. عدالة اجتماعية) هي بداية عهد جديد, وهي بداية التغيير، وفاتحة الخير للبلاد والعباد؛ ليتغير وجه مصر إلى ما تصبوا إليه ويحلم به كل مصري شريف.

 

وكان يوم 28 يناير يومًا فاصلاً في حياتي وحياة كل مصري، رأيت كيف تغيَّر الناس تغييرًا جذريًّا من السلبية المفرطة إلى تلبية نداء الوطن، كانت المسئولية الشخصية تحتم على كلِّ مصري ألا يتأخر عن نداء الواجب.

 

رأيت كيف يضحي الناس بأموالهم وأنفسهم وأرواحهم.. كل ذلك لله والوطن، ورأيت كيف اشترى أحد الشباب كمية من الكمامات الواقية ووزَّعها على المتظاهرين مجانًا، وعندما هممت بشراء واحدة وجدت أن ثمن الواحدة يتعدى أربعة جنيهات، أي أن ذلك الشاب قد دفع على الأقل ثلاثمائة جنيه من نفسه بدون مقابل.

 

أيضًا رأيت بعيني هؤلاء الشباب الذين وزعوا على المتظاهرين كميات كبيرة من الكوكاكولا لتقيهم من رائحة القنابل المسيلة للدموع, وعندما كنا نقف أمام إحدى بوابات النادي الأهلي وكانت مغلقة طلبنا من أحد الشباب من داخل النادي أن يشتري لنا عدة زجاجات من المياه لنغسل بها وجوهنا من آثار الدخان ونروي بها عطشنا، فدخل وأحضر عدة كراتين من المياه، وصمم على عدم أخذ أي مقابل.

 

رأيت كيف أن أصحاب الشركات والمحلات المطلة على الميدان قد فتحوا شركاتهم ومحلاتهم للثوار بدون مقابل، وكثير من الشركات المصرية الأصيلة قد أمدت الثوار بالكثير والكثير من احتياجات الاعتصام.

 

رأيت أيضًا في اعتصام ميدان التحرير أن هناك شبابًا وشيوخًا ونساءً يحضرون معهم العصائر والأغذية والأدوية، رأيت مَن يوزِّع البسكويت، ومَن يوزع المياه والمخبوزات بأنواعها، وسندوتشات الفول والطعمية، ورأيت مَن يوزِّع رغيف وقطعة جبن, كلٌّ يفعل ما يستطيعه بحب وود.

 

وجدت أن الميدان قد غير من قناعات الناس، فأصبح الميدان ملهمًا لأرواح الناس, مغيرًا لقناعات سلبية نحتت في كيان الشعب عبر سنوات من الإفساد المتعمد, أصبح الميدان ملحمة من العطاء..عطاء بدون مقابل.. عطاء من قلوب الناس.. عطاء المحب إلى حبيبته.. عطاء من نوع جديد لم نعهده على أنفسنا من قبل, كان الناس عندهم ذاتية ورضا للعمل والتضحية.

 

رأيت أن شباب مصر العظيم ليسوا مَن صوَّرَهم إعلام المخلوع في صورة ذلك الشباب الماجن "السيس" الذي كل همه إشباع غرائزه وشهواته، وأنهم شباب تافه، يجري وراء نجوم الفن والغناء، وليس لديهم أي هدف نبيل، ورأينا جميعًا أيام الثورة كيف أن أغلب وسائل الإعلام حاولت تشويه صورة هؤلاء الأطهار الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل الله والوطن بأنهم عملاء وخونة، ثم تبين بعد ذلك مَن هم الخونة الذين باعوا البلاد والعباد.

 

وجدنا أن هناك شبابًا يعمل لله والوطن.. بدون مقابل أو كلمة شكر من أحد, رأيت كيف أنه عند الشدائد تظهر معادن شباب مصر، رأيتهم كيف يجمعون القمامة، ويكنسون الميدان كله، وكانوا كخلية نحل، الكلُّ يعمل في صمت, يعمل من أجل رفعة الوطن ومحبة الله.

 

نجح الميدان في تغير الكثير والكثير في نفوس الشعب كله, ذابت الحواجز النفسية بين طبقات المجتمع، فكنت ترى الغني بجانب الفقير, العالم بجانب المهني البسيط, المتبرجة تجلس بجانب المنتقبة في ود واحترام, وكان القبطي يصب الماء للمسلم ليتوضأ, ذهبت القناعات والمعتقدات السياسية والدينية وبقيت مصر فقط في قلوب الجميع.

 

ذاب الجميع في حبِّ الله والوطن فكلاهما لا يتباعدان، فحب الوطن من حب الله، وأيقنت كيف أننا كنا نحب ذلك الوطن الغالي، وكنا نريد أن نضحي من أجله لكنه كان يحال بيننا وبين إظهار ذلك الحب؛ لأن شلة الحرامية كانوا يعطوننا إحساسًا بأنهم يحبون الوطن أكثر منا, وكانوا دائمًا ما يراهنون على أن هذا الشعب لن يَتَّحِدَ على كلمة، فالعرب خُلِقُوا ليتفرقوا, ونجحوا أن يزرعوا فينا السلبية والتواكل وعدم العمل الجاد.

 

والغريب أن الداخل إلى الميدان كان يشعر بتلك الراحة النفسية التي لن تجدها إلا في الأراضي المقدسة، وأعتقد أن الميدان قد استمد تلك الروح من دماء الشهداء، وعرق الثوار، وطيبة وجمال المصريين في وقت الشدائد.

 

رأيت كيف فعل هؤلاء الشباب كل ذلك، وكيف أن روحًا جديدة لم نعهدها من قبل أصبحت تسري في عروق الناس وفي جسد الأمة, رأيت أننا فقط لم نفعل كل ذلك إلا لله والوطن، الوطن الذي سنبنيه بسواعدنا ودمائنا وعرق أبنائه الأوفياء الذين لم يبخلوا على الوطن في تحريره ورفعته وإرجاع دوره بين الأمم؛ لترتفع مصر كما كانت عالية مشرقة.

 

ولكن أيها الشباب ما أحوجنا إلى أخلاق الميدان التي نبعت من ضمير كل مصري شريف أحبَّ مصر من أعماق قلبه، وكان يريد أن يضحي بنفسه وماله في سبيل رفعة مصر, ما أحوجنا إلى أن نحتضن بعضنا ونبتعد عما يفرقنا ويشتت شملنا, ما أحوجنا إلى احترامنا لرأي الآخر بحبٍّ وودٍّ، ونعلم أن هدفنا واحد، وهو رفعة مصر عالية بين الأمم, ما أحوجنا أن نعمل فقط لله والوطن.