كتب الدكتور محمد المخزنجي مقالاً بعنوان "أم كلثوم والجماعة" يوم الخميس الموافق 19/5/2011 بجريدة (الشروق) اليومية.

 

وبما أني من المتابعين لكتاباته لما في أسلوبه من جوانب نفسية، وتحليلية راقية تجعل القارئ مستمتعًا بكل كلمة تكتب، ولهذا فقد بدأ مقاله المذكور بوصفه المشاعر الجميلة في العلاقة بينه وبين المهندس خيرت الشاطر صديق الدراسة في المدرسة الثانوية بالعلاقة التي جمعتهما حتى وإن كان هناك اختلاف فكري بسيط، ولكن تظل هذه العلاقة هي المشترك بينهما حتى يوم خروج المهندس خيرت الشاطر من معتقله يومها تذكر هذه العلاقة الطيبة والمشاعر الجميلة التي جمعتهما.

 

إلا أن المقال بدأ يتحول إلى علاقة الإخوان المسلمين بالفن ووصفه لأناشيد الإخوان التي أنشدها الشباب في استقبال المهندس خيرت الشاطر بأنها (ركيكة) مسطحة الصياغة ورتيبة اللحن وفقيرة الإيقاع بأصوات "مزنوقة" بشكلٍ ما، وتطرَّق أيضًا إلى أنها ليست المرة الأولى التي يسمع هذه الأناشيد ولكن سمعها أيضًا في احتفال نقابة الأطباء بالمنصورة.

 

وبعد قراءتي لهذا المقال كان شيء بداخلي يخاطبني هل هذا الإحساس هو نفسه عند سماعي للأناشيد التي كانت سببًا مهمًّا جدًّا لانضمامي لجماعة الإخوان المسلمين فكان لازمًا عليَّ أن أكتب هذه الكلمات لتوضيح بسيط على المقال وليس تعليقًا أو نقدًا للمقال.

 

في البداية سؤال مهم جدًّا يطرح نفسه: هل الفن الذي يريده الإخوان هو فن يقصي كل أنواع الفنون الموجودة (غناء- سينما- مسرح- فن تشكيلي- وغيرها من أنواع الفنون) أم هو فن يرقى بكل أنواع الفنون، ويهذبها اعتمادًا على القواعد الأساسية لهذه الفنون وانطلاقًا من فكر الإخوان المسلمين في إصلاح الدنيا بالدين.

 

من الطبيعي جدًّا وجود فجوة كبيرة بين المثقفين والفنانين العاملين في الساحة الفنية والإخوان بالنسبة لطبيعة الفن؛ نظرًا لهذه الظروف التي كانت مصر تعيشها في ظل النظام الذي اعتدنا منه أن يخنق أي فن ولا يريد لأي مبدع أن يظهر إلا بالمسموح بعد عرضه رقابيًّا وأمنيًّا على هذا النظام.

 

وبما أن الإخوان المسلمين لهم مرجعيتهم الإسلامية التي ليست ضد الإبداع أو إغلاق العقول أو كما يقول البعض إنكم تدعون إلى حياة تحرم فيها البسمة على كل فم، والبهجة على أي قلب، والزينة في أي موقع، والإحساس بالجمال في أي صورة (الدكتور القرضاوي في كتابه بينات الحل الإسلامي) نرجع معًا إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة لتوضيح هذه الفكرة.

 

والكلام على لسان الدكتور القرضاوي يقول: "إن هذا الكلام لا أساسَ له من دين الله، وإذا كان روح الفن هو شعور بالجمال، والتعبير عنه، فالإسلام أعظم دين- أو مذهب- غرس حب الجمال والشعور به في أعماق كل مسلم.

 

وقارئ القرآن يلمس هذه الحقيقة بوضوح وجلاء وتوكيد، فهو يريد من المؤمنين أن ينظر إلى الجمال مبثوثًا في الكون كله، في لوحات ربانية رائعة الحسن، أبدعتها يد الخالق المصور، الذي أحسن خلق كل شيء، وأتقن تصوير كل شيء: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ (السجدة: من الآية 7)، ﴿مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ﴾ (الملك: من الآية 3)، ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (النمل: من الآية 88).

 

ثم نرى القرآن الكريم يلفت الأنظار، وينبه العقول والقلوب، إلى الجمال الخاص لأجزاء الكون ومفرداته. 

 

إن القرآن بهذا كله، وبغيره، يريد أن يوقظ الحس الإنساني، حتى‌ يشعر بالجمال الذي أودعه الله فينا وفي الطبيعة من فوقنا، ومن تحتنا، ومن حولنا. وأن نملأ عيوننا وقلوبنا من هذه البهجة، وهذا الحُسن المبثوث في الكون كله.

 

وبعض الحضارات تغفل هذا الجانب وتوجه أكبر همها إلى محاولات الإنسان إلى نقل جمال الطبيعة على حجر أو ورق، أو غير ذلك، فهو يرى السماء أو البحر أو الجبل، أو الأنعام، ولا يلتفت إلى ما فيها من سر الجمال الإلهي، وإنما يلتفت إليها حين ينتقل إلى لوحة، أو صورة مشكلة، فليت شعري أيهما أهم وأقوى تأثيرًا في النفس البشرية: الأصل الطبيعي أم الصورة المقلدة؟

 

إن الإسلام يحيي الشعور بالجمال، ويؤيد الفن الجميل، ولكن بشروط معينة، بحيث يصلح ولا يفسد، ويبني ولا يهدم.

 

وقد أحيا الإسلام ألوانًا من الفنون، ازدهرت في حضارته وتميزت بها عن الحضارات الأخرى مثل فن الخط والزخرفة والنقوش: في المساجد، والمنازل، والسيوف، والأواني النحاسية والخشبية والخزفية وغيرها".

 

كما يوضح أيضًا فكرة الارتقاء بالفن وليس إقصاءه فيقول: "كما اهتم بالفنون الأدبية التي نبغ فيها العرب من قديم، وأضافوا إليها ما تعلموه من الأمم الأخرى، وجاء القرآن يمثل قمة الفن الأدبي، وقراءة القرآن وسماعه عند مَن عقل وتأمل إنما هما غذاء للوجدان والروح لا يعدله ولا يدانيه غذاء، وليس هذا لمضمونه ومحتواه فقط، بل لطريقة أدائه أيضًا، وما يصحبها من ترتيل وتجويد وتحبير تستمتع به الآذان، وتطرب له القلوب، وخصوصًا إذا تلاه قارئ حسن الصوت، ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم لأبي موسى: "لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود".

 

فالفن يا سادة يا كرام بقواعده هو فن واحد ليس فيه أحزاب أو جماعات، ولكن الاختلاف في التطبيق بين فكر وفكر.

 

فمن القواعد الأساسية مثلاً لغناء المقامات الموسيقية المتعارف عليها أمثال (مقام الصبا والنهوند والحجاز والكرد وغيرها) قواعد أساسية لا يستطيع الإخوان مثلاً عمل مقامات جديدة حتى يكونوا قد جاءوا بفن جديد يخالف فن الأجداد، وهذه الأناشيد التي ذكرها الدكتور محمد المخزنجي تعتمد اعتمادًا كليًّا على صناعة الأغنية المتعارف عليه من بداية كتابة الكلمات وتلحين الملحن وتوزيع الموزع إلى إخراج الأغنية، أو النشيد للنور، وكنت أود أن يذكر الدكتور محمد أحد هذه الأناشيد التي قال عنها إنها ركيكة، وكذلك الأمر بالنسبة للسينما والمسرح وغيرها من أنواع الفنون.

 

فالهدف الأسمى للإخوان من الفن (يصلح ولا يفسد، ويبني ولا يهدم) شعار يصنع شباب يستطيع حمل أمانة هذا الوطن.

 

وقد يظن البعض أن الإخوان المسلمين قد جعلوا بينهم وبين الفنانين والعاملين في الحقل الفني جدارًا فولاذيًّا لا ينفذ من فنهم أي شيء ولا يسمعون عنهم ولا منهم ولكن وبالرجوع إلى بداية الجماعة في أيام الإمام حسن البنا رحمة الله عليه تتضح الصورة.

 

كوَّن البنا علاقةً بالفنانين الذين تيسَّر له الوصول إليهم، فقد كان يتعامل مع الفنانين بروح أخرى غير ما كان يتعامل بها معظم إسلاميِّي عصره، من روح المقاطعة وعدم إقامة أي علاقة معهم، ولا حتى الحرص على السلام عليهم، بل السخرية أحيانًا والتنقُّص من امتهانهم للتمثيل، على عكس البنا رحمه الله، فقد أقام البنا علاقاتٍ مع الفنَّانين، تركت أثرًا طيبًا عن دعوة الإخوان في نفوسهم، سواءٌ كانت العلاقة بلقاءٍ عابرٍ لا يفوته فيه غرسُ معنًى من معاني الإسلام الحسنة، أو بإقامة علاقة توادّ وتودُّد معه، أو بظهور الدعوة أمامه بمظهر لا يدعوه للريبة من حملتها.. أذكر من هؤلاء الفنانين أنور وجدي.

 

أنور وجدي، الذي كان له صيتٌ ذائعٌ في فترة الأربعينيات من القرن العشرين، والذي كان يلقَّب بفتى الشاشة، وله جمهورُه المتابع لفنه، يقول الدكتور محمود عساف:

 

"في يوم من أيام صيف عام 1945م وكان الجوُّ صحوًا، ونسمة خفيفة تداعب الشجر في ميدان الحلمية الجديدة، ذهبت إلى الأستاذ الإمام كعادتي كل يوم أتلقَّى تعليماته فيما يتصل بالمعلومات، وكان في ذلك الوقت غير مشغول بضيوف أو أعمال لها صفة الاستعجال، قال لي: "قم بنا نذهب إلى البنك العربي لنفتح حسابًا للإخوان هناك"؛ إذ لم يكن للإخوان حساب بأي بنك حتى ذلك الوقت.

 

توجهنا إلى مكتب رئيس البنك وكان يتبع سياسة الباب المفتوح للعملاء، ويستطيع أي عميل أن يدخل إليه بغير استئذان، دخلنا وألقينا السلام، وجلسنا على أريكة مواجهة للمكتب، وكان هناك رجل جالس على مقعد مجاور للمكتب وظهره منحرف نحوَنا، وكان يتحدث مع شومان بك (رئيس البنك) وفي انتظارنا صامتين إلى أن تنتهي تلك المقابلة، فاجأنا شومان بك بقوله: "أهلاً وسهلاً" بصوتٍ عالٍ جعل الجالس إلى مكتبه ينظر نحوَنا، وإذ بذلك الجالس ينتفض واقفًا ويهتف: "حسن بك؟! أهلاً وسهلاً يا حسن بك، ثم تقدم نحوَنا مصافحًا الإمام ثم إياي، ثم جلس على مقعد مجاور للإمام وقال: "أنا أنور وجدي.. المشخصاتي.. يعني الممثل.. طبعًا أنتم تنظرون إلينا ككَفَرة نرتكب المعاصي كل يوم، في حين أني والله أقرأ القرآن وأصلي كلما كان ذلك مستطاعًا".

 

كانت مفاجأةً لي، فلم نكن ننادي الإمام أو نشير إليه إلا بقولنا: فضيلة الأستاذ.. أما حسن بك، فقد كانت نشازًا.

 

قال له الإمام: يا أخ أنور أنتم لستم كفرة ولا عصاة بحكم عملكم، فالتمثيل ليس حرامًا في حد ذاته، ولكنه حرامٌ إذا كان موضوعه حرامًا، وأنت وإخوانك الممثّلون تستطيعون أن تقدموا خدمةً عظمى للإسلام إذا عملتم على إنتاج أفلام أو مسرحيات تدعو إلى مكارم الأخلاق، بل إنكم تكونون أكثر قدرةً على نشر الدعوة الإسلامية من كثير من الوعَّاظ وأئمة المساجد.

 

إني أرحِّب بك وآمل أن تحضر لزيارتنا بدار الإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة لنَتَبَادَلَ الرأيَ حول ما يمكن أن تُسهموا به في نشر الفضيلة والدعوة إلى الله" (انظر: مع الإمام الشهيد حسن البنا للدكتور محمود عساف ص 39- 41) عندما سمع أنور وجدي هذا الردَّ الجميل من الإمام البنا بكى أنور وجدي وقبَّل يده ورأسه (انظر: حوار مع الحاج محمد نجيب عن ذكرياته عن البنا المنشورة على موقع (إخوان أون لاين. نت) بتاريخ 14/8/2006م..) بعدها رأينا لأنور وجدي (ليلى بنت الفقراء) (انظر: مع الإمام الشهيد حسن البنا ص 41).

 

أخيرًا يتضح لنا أن الإخوان المسلمين قد جعلوا فكرة المشاركة والرقي هي الأساس في علاقتهم بالفن بشكل عام والفنانين بشكل خاص، وإن شاء الله ستكون هناك سلسلة لمقالات فنية توضح هذا الأمر وبشكل أكثر توضيح.

 

أختم بحادثة حصلت قد توضح عنوان مقالة الدكتور محمد المخزنجي بالنسبة للإخوان المسلمين وأم كلثوم، يقول أحد الإخوان كنا معتقلين في سجن في القاهرة وقد جاءت الأوامر بالترحيل إلى الواحات وقامت إدارة السجن بالتحضير للذاهب إلى هناك، وكان الطبيعي أن تكون وسيلة المواصلات القطار وبينما نحن في محطة مصر وبين زحام المحطة بالركاب والمسافرين إذ بنا نستمع إلى صوت أم كلثوم يصدر من أحد الأكشاك الموجودة بالمحطة وهي تقول (كله في حبك يهون) مقطع من أغنية "أنت الحب"، كلمات الشاعر أحمد رامي، وتلحين الموسيقار محمد عبد الوهاب، وإذ بكل الإخوان الموجودين في هذا الموقف يجهشون بالبكاء فتعجَّب الحاضرون من الموقف (إزاي الإخوان بيسمعوا أم كلثوم وبيعيطوا كمان)، وطبعًا البكاء هنا ليس على حب شخص ولكن على حب مالك الأرض والسماء.

-------------

* منشد وباحث