المطالع لفكر الإخوان خصوصًا ما وضعه الإمام المؤسس في عدد من رسائله، يجد عرضًا واضحًا متكاملا لطريق النهضة، بما في ذلك النماذج العملية لهذا المشروع الذى يتسم- كما يقول د. عبد الحميد الغزالي (في كتابه: المشروع الإسلامي لنهضة الأمة)- بسلاسة العرض، وسهولة الأسلوب، وتقديم الدليل الشرعي، والتركيز على تربية الرجال، وإيثار الناحية العملية، والتدرج في الخطوات، والبعد عن مواطن الخلاف، والإيمان العميق بشمول الإسلام لكل مناحي الإصلاح إلى نهاية الزمان، فهو فكرة وعقيدة، ونظام ومنهاج، لا يحدّه موضع، ولا يقيده جنس، ولا يقف دونه حاجز جغرافي، ولا ينتهي بأمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ ذلك لأنه نظام رب العالمين، ومنهاج رسوله الأمين.

 

ويمكن إجمال المراحل التي مرت بها منهجية الأستاذ البنا لمشروع النهضة في: - التفكير في التحديات التي تواجه الأمة. - دراسة التاريخ والواقع. - استخلاص الدروس، ثم كيفية التعامل مع هذه الدروس. لقد أحس البنا بالتحدي الخارجي القوي الذي يواجه الأمة، فدفعه ذلك إلى تفكير عميق واستجابة مكافئة في البحث عن إجابات للخروج من المأزق، واكتشاف الدواء والعلاج، واستثمار اليقظة الإسلامية ومشاهد البعث والإنقاذ.. يقول: "وهكذا أيها الإخوان، أراد الله أن نرث هذه التركة المثقلة بالتبعات، وأن يشرق نور دعوتكم في ثنايا هذا الظلام، وأن يهيئكم الله لإعلاء كلمته وإظهار شريعته، وإقامة دولته من جديد ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)﴾ (الحج) "رسالة بين الأمس واليوم".

 

وقد وضع البنا يده على مظاهر أزمة الأمة، المتمثلة في:

- إصابتها في ناحيتها السياسية، بالاحتلال من جانب أعدائها، والحزبية والخصومة والفرقة والشتات من جانب أبنائها. - إصابتها في ناحيتها الاقتصادية، بانتشار الربا بين كل طبقاتها، واستيلاء الأجانب على مواردها وخيراتها. - إصابتها الفكرية بالفوضى والمروق والإلحاد، يهدم عقائدها، ويحطم المثل العليا في نفوس أبنائها. - إصابتها الاجتماعية بالإباحية في عاداتها وأخلاقها، وبالتقليد الغربي الذي يسري في مناحي حياتها. - وبالقوانين الوضعية التي لا تزجر مجرمًا، ولا تؤدب معتديًا، ولا ترد ظالمًا، ولا تغني يومًا من الأيام غناء القوانين السماوية التي وضعها خالق الخلق ومالك الملك ورب النفوس وبارئها. - وفي ناحيتها النفسانية بيأس قاتل، وخمول مميت، وجبن فاضح، وذلة حقيرة، وخنوثة فاشية، وشح وأنانية تكف الأيدي عن البذل، وتقف حجابًا دون التضحية، وتُخرج الأمة من صفوف المجاهدين إلى صفوف اللاهين اللاعبين. ويواجه البنا هذا الواقع.. بثقة المسلم وعزة المؤمن، راغبًا في النهوض بالأمة من جديد بقوله: "إن مهمتنا سيادة الدنيا، وإرشاد الإنسانية كلها إلى نظم الإسلام الصالحة، وتعاليمه التي لا يمكن بغيرها أن يسعد الناس"..

 

ومن هنا.. يعتقد الإخوان المسلمون أن الله تبارك وتعالى حين أنزل القرآن وأمر عباده أن يتبعوا محمدًا الله عليه وسلم ورضي لهم الإسلام دينًا، وضع في هذا الدين القويم كل الأصول اللازمة لحياة الأمم ونهضتها وإسعادها، وذلك مصداق قول الله تبارك وتعالي: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: من الآية 157" رسالة: إلى أي شيء ندعو الناس.

 

ويحدد الإمام البنا مستلزمات مشروع النهضة بقوله: "إن تكوين الأمم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ تحتاج من الأمة التي تحاول هذا، أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل، إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور: 1- إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف. 2- وفاء ثابت لا يعدو عليه تلوُّن ولا غدر. 3- تضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل. 4- معرفة بالمبدأ، وإيمان به، وتقدير له، يعصم من الخطأ فيه، أو الانحراف به عنه، أو المساومة عليه، أو الخديعة بغيره "رسالة إلى أي شيء ندعو الناس".

 

ولنجاح المشروع: ركز الإمام البنا على العمود الفقري لإحداث النهضة، وهم الشباب، بقوله:
 "إنما تنجح الفكرة إذا قوي الإيمان بها، وتوافر الإخلاص في سبيلها، وازدادت الحماسة لها، ووجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها، وتكاد تكون هذه الأركان الأربعة: (الإيمان، والإخلاص، والحماسة، والعمل) من خصائص الشباب؛ لأن أساس الإيمان: القلب الذكي، وأساس الإخلاص: الفؤاد النقي، وأساس الحماسة: الشعور القوي، وأساس العمل: العزم الفتي.. وهذه كلها لا تكون إلا للشباب، ومن هنا كان الشباب- قديمًا وحديثًا- في كل أمة عماد نهضتها، وفي كل نهضة سر قوتها، وفي كل فكرة حامل رايتها.. (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)) [الكهف]" "رسالة إلى الشباب".

 

ومن عوامل نجاح المشروع كذلك:

 إعداد الرجال، بالتربية الجادة، وبناء النفوس، وتشييد الأخلاق، وطبع أبنائها على خلق الرجولة الصحيحة؛ حتى يصمدوا لما يقف في طريقهم من عقبات، ويتغلبوا على ما يعترضهم من صعاب.. "إن الرجل سر حياة الأمم ونهضتها، وإن تاريخ الأمم جميعًا إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين أقوياء النفوس والإرادات، وإن قوة الأمم أو ضعفها إنما تقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوافر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة" [رسالة هل نحن قوم عمليون]. والإسلام كفيل، بإمداد الأمة الناهضة- وفقًا لتحليل الأستاذ البنا- بالدعائم أو عناصر القوة التالية: الأمل الواسع الفسيح، الاعتزاز بالقومية والتاريخ المجيد، القوة والاستعداد والجندية، العلم الغزير (علم الدنيا وعلم الدين)، الخلق الفاضل القوي المتين، النفس العالية الطموح، المال والاقتصاد. ولقد أكد الأستاذ البنا- منذ اليوم الأول لدعوته- أن مرجعية الدولة العليا هي الإسلام، وأن هذه الدعوة تتميز بمجموعة من الخصائص تميزها عن غيرها من الدعوات، وهي ليست خصائص شكلية، وإنما تمثل جوهر الفكرة التي يقوم عليها هذا المشروع الحضاري الذي يستنهض الأمة من جديد، وهذه الخصائص هي: الربانية، العالمية، التميز، الشمولية، العلمية، العقلانية، الاستقلالية، العملية، الوسطية، الشرعية التاريخية، الامتداد الحضاري.

 

وإن مهمة الدعوة أو رسالتها -حسب الإمام البنا- تتلخص في مضامين أربعة:

- تخليص الأمة من قيودها السياسية، وبناؤها من جديد. - إقامة النظام الإسلامي الشامل. - الوقوف في وجه مدنية المادة. - سيادة الدنيا وإرشاد الإنسانية.

 

 والإخوان يعملون لغايتين هما:

 - المساهمة في الخير العام والخدمة الاجتماعية.

- الإصلاح الشامل والتغيير والتبديل للأوضاع القائمة.. وهاتان الغايتان تندرج تحتهما أهداف قريبة وبعيدة تشمل: إصلاح الفرد، بناء الأسرة، إرشاد المجتمع، إصلاح الحكومة، إعادة الخلافة، تحقيق السيادة، أستاذية العالم.

 

ويمكن تلخيص مراحل العمل الدعوي، حسب تصور الإمام البنا في:

- مرحلة الدعاية والتعريف، مرحلة الإعداد والتكوين، مرحلة العمل والتنفيذ، مرحلة الدولة، مرحلة التمهيد للخلافة، مرحلة استعادة الكيان الدولي أو الخلافة، مرحلة الأستاذية وإقامة النموذج.

 

- ويحدد البنا وسائله الجذرية لتحقيق مشروعه في: 

- - المنهاج الصحيح، العاملين المؤمنين، القيادة الحازمة الموثوق بها.  ويحددها مرة ثانية في: الإيمان العميق، التكوين الدقيق، العمل المتواصل.. 

 

 وهناك وسائل حركية أخرى يحددها في:

الدعوة والبيان (الوعظ والإرشاد)، التربية (الإعداد والتكوين)، العمل السياسي (النضال الدستوري)، الجهاد (الفريضة الماضية لتحرير الأوطان).

 

 ويحدد البنا العقبات الرئيسة التي تواجه مشروعه في: 

 جهل الشعب، استغراب أهل التدين وإنكار العلماء الرسميين، وحقد الرؤساء والزعماء وذوي الجاه والسلطان، وقوف الحكومات على السواء في وجوه الإخوان والحد من نشاطهم، وتذرع الغاصبين بكل طريق لمناهضتهم وإطفاء نور دعوتهم، وإثارة غبار الشبهات وظلم الاتهامات. 

 

 وحدد أيضًا تكاليف النضال الدستوري في:

 السجن والاعتقال، النقل والتشريد، مصادرة المصالح وتعطيل الأعمال، تفتيش البيوت.

 

وحدد واجبات عشرة للتغلب على تلك العقبات هي:

 الإيمان بالله، والاعتزاز بمعرفته والاعتماد عليه، عدم الخوف أو الرهبة إلا من الله تعالى، أداء الفرائض واجتناب النواهي، التخلق بالفضائل والتمسك بالكمالات، الإقبال على القرآن والسيرة ومدارستها، الاهتمام بالناحية العملية والابتعاد عن الجدل، التحاب والحرص على الرابطة الأخوية، الثبات على المبدأ، السمع والطاعة للقيادة، ترقب النصر وتأييد نصر الله تعالي.

 

وقد حدد البنا صفات المرشح للحاق بالدعوة في: 

 أن يكون شخصًا عمليًّا متحركًا، مفكرًا، جريئًا، منتجًا. 

 

وحدد مواصفات المربين في:

 أن يكونوا مثقفين، لديهم جاهزية معنوية وذهنية ومادية، مدرَّبين على المهارات الحياتية، متخصصين في المجال المحدد الذي يخدمون فيه. 

 

 ومن أجل تربية الأنصار وتكوينهم وتعبئتهم حدد لذلك وسائل هي:

الأسر (محضن للعلاقات الأخوية)، الكتائب (معهد التربية الروحية)، الرحلات (محضن العلاقات الاجتماعية)، الدورات (مركز التأهيل والتدريب)، المخيمات (معهد التربية الجسمية)، المؤتمرات (معهد التربية العلمية والفكرية).

 

 وهناك منطلقات حاكمة للفكر السياسي في مشروع النهضة عند الإخوان، منها:

 أن شمولية الإسلام تفرض العمل السياسي، وأن الإسلام لا يفصل بين الدين والسياسة، وأن السياسة والحكم أصل من أصول الشريعة لا ينفصلان عن بقية الأصول، وأن السكوت عن الحكم جريمة، والمطالبة به واجب إسلامي، وأن غاية الإخوان ليست الحكم، وإنما غايتهم تطبيق شرع الله.

 

وهناك كذلك أسس لمفهوم العالمية والنظام العالمي في المشروع الحضاري للإخوان هي:

تحقيق الأخوة العالمية، المساهمة في السلام العالمي، احترام القانون الدولي في السلم والحرب، التعهد بكفالة الحقوق الدولية، المحافظة على التعهدات وأداء الالتزامات، البر والإحسان بين المواطنين وإن اختلفت عقائدهم، تحريم العنصرية والعصبية الطائفية، اعتماد سياسة التعاون والتحالف الصادق.