عندما ظهر الرئيس المخلوع حسني مبارك على سريره الطبي في قفص المحكمة أمس تأكد المصريون- وفي المقدمة منهم صناع الثورة- أنهم أمام مشهد حقيقي للرئيس المخلوع بدَّد كل الشكوك التي أحاطت بهذه المحاكمة، والشكوك التي أحاطت بحضور مبارك شخصيًّا إلى المحكمة حتى صباح يوم الجلسة.

 

كانت التهمتان الرئيسيتان اللتان وجهتهما النيابة إلى مبارك ومساعديه هما: قتل الثوار والتربُّح الوظيفي، وهما تهمتان تستحقان أقصى العقوبات، ولكن جرائم نظام مبارك لا تقتصر على هاتين التهمتين، فالأكبر منهما قتل مصر الدولة، وتقزيم دورها في العالمين، بعد أن كانت قوة إقليمية كبرى، ورهن إرادتها للأعداء، وقتل كرامة المواطنين المصريين، سواء في أقسام الشرطة أو في طوابير الخبز والغاز والخدمات الحكومية الشحيحة، وقتل الحياة السياسية؛ بفرض هيمنة حزبه "الوطني الديمقراطي" على الجميع، وتسخير كل إمكانيات الدولة لصالحه، في الوقت الذي تمَّت فيه ملاحقة قوى المعارضة الحزبية التقليدية، بل وحرمان المعارضة الحقيقية- وخصوصًا أبناء التيار الإسلامي- من ممارسة العمل السياسي الشرعي عبر أحزاب قانونية.

 

هل يمكن أن ننسى قتل المواطنين في الشوارع مهما اختلفنا مع رؤاهم الفكرية وطرقهم العملية؟ أذكر أنني شاهدت بنفسي أمام جامعة القاهرة قتل أحد أفراد الجماعة الإسلامية بعد ملاحقة مثيرة له عبر أسوار الجامعة، وبعد قتله تم تركه ينزف دون تقديم أي إسعافات له حتى لفظ أنفاسه، وبلغت البشاعة منتهاها بقيام أحد ضباط أمن الدولة بركل الجثة برجله، وهو ما أثار شهود الوقعة؛ لكنهم ما كانوا يستطيعون قولاً ولا فعلاً!!.

 

لم يكن هذا الفعل الشنيع هو الأول أو الأخير من نوعه، فلعل الكثيرين يذكرون أيضًا قتل الدكتور علاء محيي الدين، المتحدث باسم الجماعة الإسلامية، في شارع ترسا بالهرم، وتركه ينزف حتى الموت أمام المارَّة مطلع التسعينيات، على الرغم من أنه لم يكن متهمًا بجرائم قتل محددة، بل كانت جريمته أنه ينشط في التواصل مع وسائل الإعلام، ولعلي لا أذيع سرًّا بعمليات القتل الجماعي التي مارستها أجهزة وزارة الداخلية- وتحديدًا جهاز أمن الدولة- لأفراد الجماعة الإسلامية الذين كان يتم حشرهم في سيارات ترحيلات؛ بدعوى نقلهم إلى أماكن احتجاز، ثم يؤمرون بالنزول من هذه السيارات في أماكن نائية أو حتى أحيانًا في وسط الشوارع ثم يطلق عليهم الرصاص الكثيف بزعم أنهم كانوا يحاولون الفرار.

 

كما لا أنسى وقعة محاصرة عدد من أعضاء الجماعة الإسلامية في أحد منازل منقباد عام 1996م، أرادوا أن يسلِّموا أنفسهم في إطار مبادرة للمصالحة قادها المحافظ سميح السعيد، وبدلاً من قبول استسلامهم تمَّ إطلاق وابل من الرصاص عليهم، وحين واجهت مدير أمن أسيوط وقتها عبد الوهاب الهلالي بهذه الجريمة؛ التي أطلعني على تفاصيلها مدير النيابة حينذاك حازم خليفة؛ راح هذا اللواء يهددني في مكتبه، ويطلب عدم نشر أية كلمة عن الوقعة؛ لكنني نشرت القصة في حينها في جريدة (الشعب)، وحين سأل زميلنا الصحفي عبد الحي محمد وزير الداخلية الراحل عبد الحليم موسى- خلال ندوة في معرض القاهرة للكتاب- عن هذا القتل العشوائي رد عليه: "إنك لو كنت موجودًا في موقع الأحداث لقتلناك أيضًا"!!.

 

وعلى الرغم من أنني لم أكن متعاطفًا أبدًا مع عنف الجماعة الإسلامية واعتداءاتها على الشرطة والسياح فإنني هنا أتحدث عن سياسة العقاب الجماعي التي اتبعها نظام مبارك في تصفية خصومه؛ إذ لم يكن رد قوات الأمن يقتصر على المتهمين بارتكاب جرائم، بل كان دائمًا يتسع إلى أقاربهم وجيرانهم، بل وعموم القرى والأحياء التي ينتمون إليها، وهي سياسة لم تكن مقتصرةً على الجماعات الإسلامية، بل كانت معتمَّدةً أيضًا في التعامل مع الجرائم العادية؛ إذ كانت تتم معاقبة الأسر واحتجاز الزوجات والشقيقات والقريبات والاعتداء عليهن حتى يقوم المتهم بتسليم نفسه للشرطة.

 

لقد كان الداخل إلى أقسام الشرطة مفقودًا ولو كان صاحب حق والخارج منها مولودًا، ولعل هذا ما يفسر سرَّ الهجمة السريعة على أقسام الشرطة عقب انهيار النظام، وطبعًا لا ننسى أن دماء خالد سعيد- التي أشعلت الثورة- كانت لشاب لا علاقة له بالتيارات أو الأحزاب السياسية، بل كان مجرد مواطن عادي تعرَّض للقتل على يد زبانية مبارك، وهو ما أشعر الكثيرين بأن ما حدث قابل للتكرار معهم.

 

قد يقول قائل إن هذه المواجهات كانت طبيعيةً في إطار مكافحة العنف والإرهاب بين نظام مبارك والجماعات الإسلامية العنيفة؛ لكن ذلك لم يقتصر على هذه الجماعات، بل امتدَّ لجماعات مسالمة، مثل الإخوان المسلمين؛ التي قُتِل عددٌ من أعضائها وقياداتها داخل سجون مبارك، لعل أشهرهم كمال السنانيري، ومسعد قطب، وأكرم زهيري.

 

هل ننسى كيف قتل مبارك الأحزاب السياسية الجادة وفجَّرها من داخلها؟

 

هل ننسى ما حدث لحزب العمل؟ وكيف تم تدبير تمثيلية لتفجيره، وغلق صحيفته (الشعب) التي كانت الصوت الأعلى ضد مبارك وأسرته، وحبيب العادلي وكل وزراء الداخلية السابقين؟
هل ننسى محاولة تفجير حزب الوفد من الداخل؟

 

هل ننسى الاعتداء البشع الذي تعرَّض له رئيس تحرير جريدة (الوفد) الراحل جمال بدوي في منطقة الدقي على يد أنصار جمال مبارك، وكذا الاعتداء على مجدي حسين رئيس تحرير جريدة (الشعب) في شارع الشيخ ريحان، والاعتداء على عبد الحليم قنديل وتجريده من ملابسه تمامًا وتركه عاريًا في طريق السويس ليلاً قبل أن تنقذه قوة من الشرطة العسكرية.

 

بل هل ننسى الاعتداء على الدكتور عبد الوهاب المسيري وزوجته وإلقاءه في الصحراء أيضًا؟!

 

الأمر لم يقتصر على التجريف السياسي، والقتل العشوائي الجماعي، بل شمل كل مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية والتعليمية، وكل ذلك يستحق أن تُعقَد له محاكمات لمبارك وأركان نظامه.