نستقبلُ هلال شهر القرآن هذا العامَ وطلعتُه مختلفة عن كلِّ عام.. إنه شهر انتصار العزائم وقوةِ الإرادة، نستقبله لأول مرة بعد انتصار ثورة الشعب المصري المباركة؛ فقد امتنَّ ربنا تبارك وتعالى على مصر بهذه الثورة وجعلها سببًا في استعادة ريادتها ومجد شعبِها، وإزالة رءوس الفساد الذين وضعوا مقدَّرات الوطن وثرواته وحقوق مواطنيه من وراء مطامعهم التي لا تعرفُ القصد، وأهواءهم التي لا تقفُ عند حدٍّ، وبطشهم الذي لا يرحم مخلوقًا ولا يخشى الخالق.. لا يعرفون إلا الخوف من أعداء هذه الأمة، وربطوا بقاءهم في سلطانهم الزائف بحماية مصالح اليهود والأمريكان داخل أوطاننا!!

 

إننا نستقبل رمضان هذا العام بنفوس جديدة ذاقت طعمَ الكرامة، وتنسَّمت ريح الحرية، وأحسَّت بعزِّ الثورة على الظلم وإزاحة أهله.

(فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)) (الأنعام).

***

 

مقياس الفضل وميزان المحبة

عندما أراد هذا الشعب الحياة الكريمة وغيَّر ما بنفسه ثائرًا ضدَّ مَن كبَّله وأذلَّه؛ استجاب الله عز وجل له (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الرعد: من الآية 11)، وأزال وطأة الظلم عن رقابنا.. وهذا ليس نهاية المطاف وخاتمة الأهداف، إنما هو بدايةُ عملٍ لبناء وطن كان المتحكمون فيه مكلفين بتخريبه ونهْبِه بلا رحمة، بدايةُ عملٍ ينجحُ بالإخلاص وينمو بالاستمرار ويُثمر بحُسْن التوكل على الله، بدايةُ عملٍ يقومُ به مَن يؤدِّي الواجباتِ قبلَ السؤال عن الحقوق، مَن يسوق الخيرَ إلى الناس ولا يمُنُّ عليهم به، مَن يَحْمدُ الله على النعمة عند غيره كأنها في حوزته هو، فلا يعرفُ الحِقدَ على أحد ولا يشعر بالكراهية تجاهه.. إنما يتخذ الرحمة بالناس والشفقة عليهم سبيلاً إلى رحمة الله وتأييده، ولا يرى نُمُوَّه بما يكون على الناس من الحق، ولكنْ بما يكونُ عليه للناس من واجبات.

 

سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحبِّ الناس إلى الله، قال: "أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للنّاس، وأحبّ الأعمال إلى الله سرور تُدخله على قلب مسلم؛ تقضي عنه دَيْنًا، أو تطرد عنه جوعًا، أو تكشف عنه كربة، ولأَنْ أمشيَ معَ أخٍ في حاجة أحبُّ إليَّ من أنْ أعتكفَ في هذا المسجد شهرًا".. ويقصدُ النبي صلى الله عليه وسلم المسجد النبوي والصلاة فيه بألف صلاة!! وقيل: يا رسول الله، أيُّ الناس أفضل؟ قال: "كلّ مخموم القلبِ صدوقِ اللسان". قالوا: صدوقُ اللسان نعرفه، فما مخمومُ القلب؟ قال: "هو التقيُّ النقيُّ، لا إثم فيه ولا بغْيَ ولا غِلَّ ولا حَسَد".

 

أرأيتم إخواني وأخواتي..

إن قِوامَ هذا كله قلبٌ ربانيٌّ يَسعُ الخلقَ رحمة وبِرًّا وشفقة وعدلاً.. "ألا إنه في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".

***

 

ثورة للبناء من الداخل

هذا الشهر العظيم نَفْحة عُلْويّة ومنحة ربانيّة يتهيَّأ فيه القلب ليثورَ ضدَّ معاني ظلم النفس وهَضْم الآخرين، يثور مجاهدًا ضد معاني الأثرة والرياء وحبِّ الظهور؛ حتى يستقيم العبد على الخضوع لله وأداء العبادة وفِعْل الخير لعموم الناس (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)) (العنكبوت)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)) (الحج).

 

فالصيامُ والقيامُ وتلاوةُ القرآن مع تقييد الشياطين تهيئ للقلب وسائل بناء الإيمان والأخلاق كما يهيئ النور للعين أسباب الرؤية والتمييز، فيتحرك الإنسان وهو يدرك لقدميه موضعَ خَطْوها فيسير ويتقدم.

 

إن نفحات هذا الشهر السماوي تسوق للقلب فيوضات من عزة الطاعة؛ ليثور ثورةً تبني النفس من الداخل بناءً يفيض على المجتمع، فنحفظ تماسكَه، ونضحي من أجل استقراره ورفعته.

• ثورة ضدّ الظلم.. فننصف الناس من أنفسنا ولا نَبْطرُ الحقوق..

• ثورة ضد الغفلة.. فنعمر الأوقات بذكر الله وشكره وحُسْن عبادته..

• ثورة ضد الفتور والكسل.. فنحيي أوقات الله الغالية مناجاة واستغفارًا..

• ثورة ضد الفساد.. فلا نشجع الرشوة ولا نسكتُ عن نصرة الحق..

• ثورة ضد الأثرة.. فنقدم مصلحة المجتمع والوطن على مآرب النفوس ونزغات الأهواء..

ثورة من أجل حُسْن الخُلُق..

• نداوي المرض.. ونصل الرحم..

• ونحمل الكَلّ.. ونُقْري الضيف..

• ونَصْدُق الحديث.. ونرحم الضعفاء..

• ونعين أهل البلاء..

(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ)(الرعد: من الآية 17).

***

 

مَنْ لهذه الجائزة؟!!

فإن لم يكن الإيمانُ هو العمل لتحقيق شُعَبِ الإيمان وأركانه واحتساب الأجر عند الله، رضي الناس أم سخطوا.. فماذا يكون؟!!

 

وإن لم يكن الإيمان هو الصبر على العمل طاعةً وعِفَّة ومجاهدة، والشكر على عون الله وتوفيقه وسائر النِّعم.. فماذا يكون؟!!

مَنْ يدرك هذا فلعله- بفضل الله- ينال تلك الجائزة:

"مَنْ صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه".

" مَنْ قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه".

"مَنْ قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه".

 

فارفعوا إلى الله الصلاة والصيام والقيام وسائر العبادات وأنتم في محراب المجتمع؛ لأن الصلاح الذي وعد الله بتمكين أهله: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ (105) (الأنبياء).. هذا الصلاح ليس فقط أيامًا تُصام وركعاتٍ تُؤدَّى، إنما هو- مع ذلك- طاقة تُسابق في الخيرات، وتتحمل الأذى، وتجعل رضوان الله فوق كل غاية.

 

وإذا كانت الغاية من الصيام هي تحقيق التقوى، فالمجتمع هو ميدان التقوى وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) (آل عمران).

 

فانظر بماذا وصف ربنا تبارك وتعالى المتقين؛ بالعطاء والحلم وسعة الصدر والعفو والإحسان، وهي صفات تدل على معايشة المجتمع والتعامل مع أفراده بالفضل لا بالعدل وبالإحسان لا بالميزان.

 

فاخرج من رمضان وأنت من المتقين..

اجعل هذا شعارَك في شهر القرآن

رحم الله القائل: "ما أشبهَ القلب تتفرعُ منه معاني الخُلُق بالحبَّة تنسرحُ منها الشجرة، فخُذْ نفسَكَ مِنْ قلبك؛ حُلْوًا من حُلْو، ومُرًّا من مُرّ"..

فقلبك مَلِك وجوارحك جنود له.. وإذا طاب الملك طابت جنوده.

فاجعل شعارك في رمضان:

خُذْ قلبك من رمضان.. وخُُذْ نفسك من قلبك.