أعود والعود أحمد لأكرر: "الحمد لله.. نعم له الحمد على ما وفق ويوفق، وما يسر وييسر".

 

فإن الأرواح تهفو إلى بيت الله الحرام ورحاب حبيبنا المصطفى العدنان، وعندما يتوارث الناس نبل الطباع وقيم الفضيلة، فلا تأتي منهم إلا محاسن الأشياء، وسمو النفوس، وطهارة القلوب، وصدق المواقف، فهذا حال الراحلين إلى الله، وقد منَّ الله علينا بعمرة رمضان، التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عمرة في رمضان تعدل حجة"، وعلى طريق الدعوة في العمرة  كانت هناك خواطر على القلب والعقل تجلت معي، أحببت أن أرويها لأحبابي، وهي:

 

الله...أم الدنيا!

بدأت الرحلة وانتهت في مطار جدة، ثم إلى مكة المكرمة، أحب بلاد الله إلى رسول الله، ويا لمشقة الصيف الجاف وعنائه وحرارته، وقد حال الشيطان بيننا، وبين هذا البلد بالأولاد   والمال والأحباب، وهنا تذكرت قول الله الحق: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)) (التوبة)، فان الله ورسوله أحب إلينا من أنفسنا.

 

الثلج والحجر الأسود

عند طوافي بالبيت العتيق اقتديت برسول الله صلى الله عليه وسلم، جامعًا قلبي وعقلي، داعيًا الله أن يغفر ذنوبي ويكفر سيئاتي، وانطلق لساني بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدت نفسي تهفو إلى الحجر الأسود، وكأنني الوحيد في صحن الكعبة أمام  الحجر الأسود، وإذا برجل قد مد يديه تجاهي، فأمسكت بيديه، فكبر قائلاً: "الله أكبر ولله الحمد"، وتبدل الحال  فوجدتني أمام الحجر فقبلته، ومسحت يداي فيه، وقبيل مقام سيدنا إبراهيم إذا ما يشبه الثلج يتساقط علينا من فوقنا بمتر واحد، وتوجه الذي أمامي قائلاً لي: "هل رأيت ما رأيت" قلت: نعم، وهنا اختفى الثلج، وسألت الله أن يجعلها رحمة من عنده أو بشرى القبول إن شاء الله تعالى.

 

إخوان المغرب في الكعبة

في انتظار أذان المغرب تعرفت على من بجواري في الكعبة "علي بلحاس" من المغرب، وتناقشنا حول حركة الإخوان المسلمين بالمغرب، فكان من آرائه: كيف للإخوان المسلمين أن يهادنوا حكومة الملك على حساب دينهم ودعوتهم؟

 

كيف يوافقون على التعديات والدستور؟ الشعب يرفض تمامًا وهم يوافقون عليه؟! فتذكرت موقف رسول الله من صلح الحديبية، واعتراض سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال لرسول الله: ألست نبي الله حقًّا؟ قال: "بلى". قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: "بلى". قلت: فَلِمَ نعطي الدنية في ديننا إذًا؟ قال: "إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري". قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به. قال: "بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوفٌ به؟ قال عمر: فأتيت أبا بكرٍ، فقلت: يا أبا بكرٍ، أليس هذا نبي الله حقًّا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذًا؟ قال أبو بكر: أيها الرجل إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوفٌ به... الحديث) (صحيح البخاري وصحيح مسلم).

 

أهل الصفة

دأب أهل مكة على إفطار الصائمين بما تجود بهم أنفسهم، يضعون التمر واللبن والماء وبعد الإفطار يقومون بجمع ما تبقى مرددين: "باقي التمر لأهل الصفة"، فتذكرت حالهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم منها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن تُرى عورته". (رواه البخاري).

 

كان أهل الصفة ناسًا فقراء لا منازل لهم، فكانوا ينامون في المسجد لا مأوى لهم غيره، وكانوا لا مساكن لهم بالمدينة ولا عشائر، فحث الله الناس بالصدقة عليهم، كان معظم أهل الصفة من المهاجرين الذين انقطعوا إلى الله ورسوله وسكنوا المدينة، وليس لهم سبب يحصلون به على ما يغنيهم، ولم يحملوا من ديارهم ما يقيم أودهم، ولم يكن ما يجود به أهل المدينة يكفي حاجة المهاجرين كلهم؛ فلذلك عانوا من الجوع وفقد الملبس والمأوى، وكانوا- مع ذلك- أعفة لا يسألون الناس.

 

أقلية مسلمة

تعرفت على أمجد علي من السودان، ويعمل مدرسًا للمواد الغذائية، ومحمد من جزيرة ميسو ريشي، وهي جزيرة إفريقية في الجنوب، والمسلمون أقلية فيها، فمعظم السكان كفرة لا يدينون بديانة، ولكن المسلمين يعيشون في أمان معهم، ولكن ينقصهم العلم الشرعي؛ لتعلم دينهم    وأُذِّن للمغرب، فآثر السوداني الميسو ريشي على نفسه، وقدم له اللبن، وهو يردد قول الله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) (الحشر: 9).

 

إلى رحاب المصطفى

بعد خمسة عشرة يومًا قضيناها بمكة حان الرحيل إلى المدينة المنورة.. إلى يثرب.. إلى طيبة، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

وهي تبعد 450 كيلو متر عن مكة وقطعتها السيارة في حوالي أكثر من ست ساعات، بين الجبال الوعرة وحرارة الشمس القاسية، وتذكرنا رسول الله وصحبه أبا بكر، وهما في طريق الهجرة من مكة إلى المدينة.

 

الروضة الشريفة

سألت أحد الراحلين معنا: أريد أن أصلي في الروضة الشريفة طوال العمرة؟ فرد: مستحيل وسط هذا الزحام.

 

وشاء الله العلي القدير في ليلة الاعتكاف الأولى، ما بين المغرب والعشاء، خلف الروضة، قمت لأشرب ماء زمزم، وعند عودتي وجدت شيخًا كبيرًا يرتكز على عصاه ويظهر عليه أنه من أوزباكستان، فقال له شاب من مصر: إنه مكان علاء، قلت: لا.. اجلس وإن شاء الله سأجد أفضل منه، فما وجدتني إلا وأنا أدخل الروضة الشريفة دون عناء من أحد، فمكثت من ليلة الحادي والعشرين حتى ليلة العيد أصلي المغرب والعشاء والتراويح، أمام محراب النبي داخل الروضة التي قال عنها الحبيب: "ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة".

 

سقوط الياسمين علينا بالحرم النبوي

قبيل العشاء وقف أمامي رجل يرتدي سروالاً وقميصًا، لم أر مثلهما قبل ذلك، بتطريز بديع، ولم أجد سواه مرتديهما، وكان الرجل فارع الطول، ذا بشرة خمرية، فقلت له: أتريد الجلوس؟ قال: نعم. فجلس، وتعارفنا، فقال: أخوك علي من موريتانيا.

 

فأعطاني مصحفًا، وقال: اقرأ. فحدثتني نفسي بالصلاة على الرسول ورؤيته، ففوجئت بورد الياسمين ذي رائحة ذكية، يتساقط من أمامنا من فوق رءوسنا بشبر دون تدخل من شخص، فالتفت أنظر مَنِ الذي رمى الورد، فالكل جالس مصطفًّا للأمام، فرد عليَّ قائلاً: إن الله أرسله إليك، خذه، فجمعت الورد كله واحتفظت به، وما زال معي وكأنها بشرى من الله، والتفت فلم أجد عليًّا بجواري.

 

بديع الزمان سعيد النورسي

من تصريفات القدر في يوم 25 رمضان 1432هـ تعرفت في المسجد النبوي على  تركي يدعى أحمد أغا، ذي لحية بيضاء، وأهداني كتابين لبديع الزمان سعيد النورسي وهما:
- الإخلاص والأخوة.

 

- رسائل النور في حياة النورسي

وتصفحتهما سريعًا وعند ترجمته فاجأني القدر أن اليوم هو ذكرى وفاة العالم الرباني سعيد النورسي منذ عام 1960 /1379هـ، العالم الذي قاد كفاح الشعب التركي، ونهض من كبوته، ومن أعظم ما قاله:

 

"إن المستقبل سيكون للإسلام، وللإسلام وحده، وإن الحكم لن يكون إلا لحقائق القرآن والإيمان؛ لذا علينا الرضا بالقدر الإلهي الذي قسمه الله لنا".

 

موكب سمو الأمير

آلمني وأدمى قلبي ما شاهدته عيناي ولم يصدقه عقلي ليلة السابع والعشرين من رمضان قبيل الفجر؛ حيث أفرغ المسجد النبوي تمامًا من جهة باب السلام وباب البقيع حتى نهاية مسجد الرسول القديم.

 

والمسلمون يتراجعون بعيدًا عن المسجد وعربات سياسية فارهة تفرق الناس؛ لتقف أمام قبر الرسول، فظننت أننا في مصر ولكنها الطامة عندما سألت فرد الأمن مجيبًا: أنه موكب صاحب السمو أمير المدينة، جاء ليزور قبر الرسول، وهنا تذكرت سيدنا عمر بن الخطاب النائم تحت الشجرة، مرتديًا ثيابه المرقع.

 

لم أتوقع يومًا أن يحدث هذا وهناك من المعتمرين والزائرين من تكبدوا عناء السفر وبذلوا المال؛ لزيارة قبر الحبيب المصطفى، ولكن حال موكب الأمير بينهم، وبين النبي صلى الله عليه وسلم، عذرًا عذرًا.. يا رسول الله.