الفتوى يكتبها: الشيخ أحمد أحمد جاد

بسم الله والحمد لله وبعد فإننا سنوضح ما للمتوفى عنها زوجها، وما عليها فيما يلي:

1- المتاع لمدة سنة: كان للمتوفى عنها زوجها وصية (مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ) (البقرة: من الآية 240)، والمتاع نفقة وسكن لمدة سنة من تركة زوجها، وكانت تعتد هذه السنة في بيته، ثم أنزل الله (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) (البقرة: من الآية 234)، فنسخت العدة من سنة إلى أربعة أشهر وعشرًا، وأنزل الله آية الميراث، ففرض لهن وصية بدلاً من متاع الحول (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ) (النساء: من الآية 12)، فبيَّن ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة.

 

قال عطاء: ".. ثم جاء الميراث فنسخ السكنى فتعتد حيث شاءت ولا سكنى لها" جزء من حديث البخاري: 5344، وفي شرح الحديث قال ابن حجر: "وأطبقوا على أن آية الحول منسوخة، وأن السكن تبعٌ للعدة، فلما نسخ الحول في العدة بالأربعة أشهر وعشر نسخت السكنى أيضًا" وراجع: أبو داود: 2298 والنسائي: 3542 وغيرهم.. وأخرج الشافعي وعبد الرازق عن جابر بن عبد الله قال: "ليس للمتوفى عنها زوجها نفقة حسبها الميراث" فتح القدير: 1/334.

 

2- مكان العدة والخروج فيها: اختلف العلماء في ذلك: قال الفريق الأول: إن المتوفى عنها تمكث في بيتها ولا تخرج واستندوا في ذلك إلى حديث الفُرَيْعة أخت أبي سعيد الخدري أنه لما قتل زوجها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترجع إلى أهلها، "فإني لم يتركني زوجي في مسكن يملكه ولا نفقة".. فقال "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله".. رواه أبو داود: 2300 والترمذي: 1204 والنسائي وابن ماجه كلهم في الطلاق ورواه غيرهم.. قال الشوكاني في النيل: "قد استدل بحديث فريعة على أن المتوفى عنها زوجها تعتد في المنزل الذي بلغها نعي زوجها وهي فيه ولا تخرج منه إلى غيره.." واستند علي القاري إلى عدم خروج المتوفى عنها زوجها بقوله تعالى (مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) (البقرة: من الآية 240)، فإنه دل على عدم خروجها من بيت زوجها، ولما نسخ مدة الحول بأربعة أشهر وعشر والوصية، بقي عدم الخروج على حاله".. الأحوذي شرح حديث الترمذي آنفًا.. وقال السندي: "آية الحول منسوخة في حق المدة ولا يلزم منه كونها منسوخة في حق المكان فليتأمل" شرح حديث النسائي: 3528 بتصرف.. فهذا يؤيد عدم الخروج من مكان العدة.

 

وقال الفريق الثاني: تعتد حيث شاءت وتخرج في عدتها، فقد روي عن عائشة أم المؤمنين أنها حجت بأختها أم كلثوم امرأة طلحة بن عبيد الله في عدتها في الفتنة.. ومن طريق آخر عن عائشة كانت تفتي المتوفى عنها زوجها بالخروج في عدتها وخرجت بأختها أم كلثوم حيت قتل زوجها إلى مكة في عمرة، وسئل عطاء عن المطلقة ثلاثًا والمتوفى عنها زوجها، أيحجان في عدتهما؟ قال: نعم، وكان الحسن البصري يقول مثل ذلك، وقال ابن عباس: إنما قال الله تعالى (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ) (البقرة: من الآية 234)، ولم يقل يعتددن في بيوتهن ولتعتد حيث شاءت" راجع المحلى لابن حزم: 11/671- 673 والقرطبي في تفسير الآية السابقة.. ويؤيده ما رواه البخاري عن ابن عباس ".. نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها فتعتد حيث شاءت وهو قوله تعالى (غَيْرَ إِخْرَاجٍ) " قال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت لقوله تعالى (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ) (البقرة: من الآية 240)، جزء من حديث البخاري: 5344، وأبو داود: 2301 والنسائي: 3528 وغيرهم وفي شرح حديث أبي داود، قال: "نسخت آية الخروج وهي (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ)، وجوب الاعتداد عند أهل الزوج، تعتد حيث شاءت، زاد البخاري: ولا سكنى لها" عون المعبود: 6/408 ومن طريق عبد الرازق بسنده إلى جابر بن عبد الله: "تعتد المتوفى عنها زوجها حيث شاءت" المحلى المرجع السابق، ورواه النسائي: 3528.. وقال الشوكاني: "فيه دليل على أن النساء كن مخيرات في سكن الحول" فتح القدير: 1/333. وروى ابن وهب بسنده أن رجلاً توفي بالإسكندرية وله دار بالفسطاط وهي معه فقال "إن أحبت أن تعتد حيث توفي زوجها فلتعتد، وإن أحبت أن ترجع إلى دار زوجها بالفسطاط فلترجع، وبه يقول أبو سليمان وجميع أصحابنا" المحلى مرجع سابق..

 

فهذه الأدلة مجتمعة تفيد: أن المتوفى عنها زوجها لا يجب عليها تحديد إقامتها، وأن لها أن تعتد حيث شاءت وأحبت وتخرج للحج والعمرة مما يقتضي المبيت خارج مكان عدتها.. وقال داود: حديث الفريعة "إنما ترويه امرأة غير معروفة بحمل العلم وإيجاب السكن إيجاب حكم والأحكام لا تجب إلا بنص من كتاب أو سنة أو إجماع.. وروى عن علي وابن عباس وجابر وعائشة مثل قول داود وبه قال جابر بن زيد وعطاء والحسن البصري". راجع القرطبي: 985.. كما أننا لا نترك حديث عائشة ابنة الصديق أم المؤمنين صاحبة العلم والفضل والفقه والتي بلغت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقرب من 2000 حديث وكان الصحابة ينهلون من علمها.

 

وقد كانت تسمى فقيهة النساء، تصيب الحق وتنطق بالحكمة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خذوا نصف دينكم من هذه الحميراء" وفي رواية.. "خذوا ثلث دينكم..." قال القاري: "معناه صحيح" راجع كشف الخفا رقم 1198، وقال الأزهري "لو جمع علم عائشة إلى جميع أمهات المؤمنين وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل: وقال عطاء: كانت عائشة أفقه الناس وأحسنهم رأيًّا.

 

ومن هنا لم يأخذ داود بحديث فُريعة كما سبق.. وماذا يقول أصحاب الفريق الأول في خروج المرأة العاملة للعمل في عدة الوفاة؟ أو للحج والعمرة؟ أو لأداء الواجبات والمجاملات؟ أو الخروج للطبيب؟ أو للإقامة مع ابنها أو بنتها بعد أن تركها زوجها وحيدة في الدار ولو أدى ذلك للسفر خارج بلدتها.. أو سافرت لابنتها لظروف الحمل والولادة وليس عندها من يرعاها أو يخدمها وأرى أيضًا أن تحضر مجالس العلم والصلاة وخاصة الجمعة وصلاة العيد وإن كانت حائضًا يشهدن الخير".. إلخ ولماذا نضيق على الناس ولماذا نأخذ بالرأي المتشدد ونترك الرأي الذي يستند إلى الحديث الأصح مثل حديث البخاري وغيره كما سبق؟ وهل الدين بالتشدد؟ نسأل الله أن يبصرنا بالحق إذا اختلف الناس.

 

3- الإحداد وترك الزينة: روى في الصحيح عن أم عطية قالت "كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج في أربعة أشهر وعشرًا، ولا نكتحل ولا نطيّب ولا نلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عصب.." البخاري: 5341 وأبو داود 2302 والنسائي 3533 وغيرهم قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادّة لبس الثياب المعصفرة ولا المصبغة.. وقال ابن دقيق العيد: يؤخذ من مفهوم الحديث جواز ما ليس بمصبوغ وهي الثياب البيض.. واختلف في الحرير، وفي التحلي بالذهب والفضة ونحوه وجهان والأصح جوازه.. شرح حديث البخاري آنفًا.. وقال القرطبي: الإحداد ترك الزينة كلها من اللباس والطيب والحلي والكحل والخضاب بالحناء ما دامت في عدتها، لأن الزينة داعية إلى الأزواج فنهيت عن ذلك قطعًا للذرائع وحماية لحرمات الله تعالى أن تنتهك- القرطبي: 987.

 

4- مدة العدة: عرفنا مما سبق مدة العدة، وهي تبدأ من يوم يأتيها الخبر.. وأكثر العلماء على أنها تبدأ "من يوم يتوفى" راجع النسائي: 3529 والدرامي: 644 والمحلى: 719 لكن هذه العدة قد تنتهي قبل هذه المدة إذا كانت حاملاً ووضعت حملها.. فقد قال تعالى ( وأولات.... حملهن ) (الطلاق: من الآية 4). ولما روى في الصحيحين "أن سبيْعَة الأسلمية نفست بعد وفاة زوجها بليالٍ.. فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتزوج" مسلم: 1485 والبخاري: 5318 وفي رواية "قد حللت حين وضعت حملك" النسائي: 3517.

 

وقد أخذ بهذا جماهير العلماء من السلف والخلف فقالوا: عدة المتوفى عنها زوجها بوضع الحمل، حتى لو وضعت بعد موته بلحظة قبل غسله انقضت عدتها وحلت في الحال للأزواج. هذا قول الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والعلماء كافة، إلا رواية عن على وابن عباس.. بأقصى الأجلين، وهي أربعة عشر وعشرًا ووضع الحمل.. النووي شرح حديث مسلم: 1484 لكن حديث سُبًيْعة حجة عليهم.. وسئل أبو العالية: لم صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة؟ قال: لأنه ينفخ فيها الروح.

 

5- خطبتها في العدة: يجوز خطبة المتوفى عنها زوجها تعريضًا لا تصريحًا لقوله تعالى (وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) (البقرة: من الآية 235).

 

والتعريض ضد التصريح، والتعريض أن يذكر شيئًا يدل به على شيء ولم يذكره، ويكون بالتلميح كقول الرجل: وددت أن الله يسّر لي امرأة صالحة، وإن النساء من حاجتي أو يقول أنت عليّ كريمة، وإني فيك لراغب، وإن الله لسائق إليك خيرًا ورزقًا ونحو ذلك" الموطأ في النكاح رقم 3 ولا يجوز المواعدة بالنكاح سرًّا إلا بطريق التعريض والتلويح وبالمعروف الذي أقره الشرع.. والقول المعروف هو ما أبيح به التعريض.

ونسأل له سبحانه أن يهدينا إلى الطريق المستقيم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.