مقدمة

قضية فلسطين هي قضية الإسلام الكبرى في هذا العصر، وهي كذلك قضية الإخوان الأساسية، وهي تمثل رأس الحربة للمشروع الصهيوني الغربي الموجه ضد الأمة الإسلامية ومشروعها الإسلامي.
وهي صراع بين الحق والباطل يمتد لأجيال عدة، ونحن هنا نحرص على أن تبقى ذاكرة الأمة حية، تعرف هذا التاريخ، وتعرف العدو من الصديق، وتحزم أمرها لكي تستعد في هذه المواجهة.

 

وهذا الكتيب موجز مختصر لجزء من تاريخ المؤامرة، وقد شكل الكتاب المتميز للدكتور محسن محمد "فلسطين" مرجعًا أساسيًّا لهذه المعلومات التاريخية المختصرة.. فجزاه الله خير الجزاء.
تنويه: لقد سقط سهوًا من البحث المقدمة أثناء إرساله للنشر والتي توضح الكتاب الذي اعتمدنا عليه.

 

ونؤكد أن هذا المنتج هو تهذيب وتلخيص لجزء من المرجع الكبير للدكتور محسن محمد- كما أشرنا في المقدمة- وقد حدث خطأ في عدم إضافة مقدمة الكتيب أثناء إرساله للنشر.

 

د. محمد عبد الرحمن المرسي

 

جذور المؤامرة:

- انقطعت صلة اليهود عمليًّا كتواجد سياسي بفلسطين منذ سنة 135 ميلادية، وعاشوا فيها كأفراد، وفي عام 15هـ / 636م ثم فتح بيت المقدس في عهد الخليفة سيدنا عمر بن الخطاب، واشترط أهلها عدم إقامة يهودي واحد بالقدس.

 

* ويمثل يهود الخزر "الأشكناز" 80% من يهود العالم في عصرنا الحالي، وهم لا يرتبطون بأرض فلسطين تاريخيًّا على الإطلاق، فلا هم من أحفاد بني إسرائيل القدامى، ولا هم سكنوا- أو جدودهم- هذه الأرض أو استوطنوها قبل ذلك، فكيف ظهرت الفكرة الصهيونية في العقلية اليهودية؟

 

- اهتمت الحركة البروتستانينة وخاصة في بريطانيا بالتوراة (العهد القديم) وبفكرة أن فلسطين هي أرض الشعب المختار (اليهود) وفي سنة 1621م ظهر أول كتاب للمحامي البريطاني اليهودي السير هذي فنش بعنوان البعث العالمي أو عودة اليهود، لتأصل هذه الفكرة: عودة اليهود إلى فلسطين.

 

كما ظهرت تلك الفكرة أيضًا في كتابات مشاهير الكتاب والأدباء في أوروبا مثل: مارتن لوثر (1483- 1546) وإسحاق نيوتن (1643- 1727) وجان جاك روسو (1712- 1778) وبريستلي (1733- 1804).

 

- كما خدمت الثورة الفرنسية ضد الحكم الملكي سنة 1789م اليهود بشكل مباشر وغير مباشر.

 

وكان نابليون بونابرت (1769- 1821) أول رجل دولة يقترح إقامة دولة يهودية في فلسطين سنة 1799م، وذلك في أثناء حملته المشهورة على مصر وحصاره عكا.

 

- وفي تلك الفترة بعد الثورة الفرنسية، أخذت تتغير طريقة تعامل أنظمة الحكم الأوروبي مع اليهود، فشهد القرن التاسع عشر في أوروبا الغربية والوسطى عملية تحرير لليهود، وتحطيم أنظمة الجيتو، ومعاملة اليهود كمواطنين كاملي الأهلية.

 

- وتأثرت اليهود بهذا التغير، ومنذ أواخر القرن الثامن عشر ظهرت بينهم ما يعرف بحركة الاستنارة "الهسكلا" وكان أبرز منظريها موسى مندلسون (1726- 1786)، وهو يهودي ألماني؛ حيث دعت هذه الحركة إلى أن يحاول اليهود الحصول على حقوقهم المدنية كاملة عن طريق الاندماج في المجتمعات التي يعيشون في وسطها، ويكون الولاء للبلاد التي ينتمون إليها وليس لقوميتهم الدينية، وقد استمرت هذه الحركة قوية حتى 1880م، وظهرت قدرة اليهود في اختراق هذه المجتمعات وتحسين مكانتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

 

- وفوق ذلك فقد تمكن اليهود من خلال إنشائهم وسيطرتهم على المنظمات الماسونية من ضمان قدر أكبر من النفوذ على رجال السياسية والاقتصاد والإعلام في عدد من البلدان مثل بريطانيا وفرنسا وأمريكا، بل وتمكن يهود الدونمة من اختراق المؤسسات العثمانية والسيطرة على حزب الاتحاد والترقي الذي قام بإسقاط السلطان عبد الحميد الثاني.

 

- في أوائل القرن التاسع عشر انتشرت الظاهرة القومية في أوروبا، وأصبح كل مجتمع أوروبي يؤكد قوميته الخاصة، فتوحد الألمان تحت زعامة بسمارك، وتوحد الإيطاليون تحت زعامة كافور... إلخ.

 

وبالتالي صنف اليهود في ألمانيا والمناطق السلافية في أوروبا الشرقية وروسيا على أنهم غرباء.

 

وأسهمت ظاهرة القومية في فشل حركة الهسكلا "التنوير" أو الاندماج مما قوى فكرة التجمع على أرض محددة: فلسطين ليكون لهم قوميتهم الخاصة بهم.

 

- أسهم الوضع في روسيا بشكل أساسي في تفجير المشكلة اليهودية، فلم يتفاعل يهود روسيا كثيرًا مع حركة التنوير "الهسكلا" بالإضافة لمحاولات فوقية من الحكومة نُفذت عن طريق القسر والإرهاب لإنهاء حياة الجيتو، ثم زاد الأمر مشاركة اليهود بفاعلية في قيادة الحركات الثورية اليسارية، وزادت الإجراءات ضد اليهود على إثر اغتيال قيصر روسيا الكسندر الثاني سنة 1881م والتي اتهم فيها اليهود، وعرفت تلك الإجراءات بما يسمى اللاسامية مثل تحريم إقامة اليهود في موسكو، وحرمان اليهود من حق الانتخاب والترشيح لمجالس البلديات، واليهودي الذي يغادر قريته لا يسمح له بالعودة.. إلخ.

 

- أدى ذلك إلى زيادة أعداد الهجرة اليهودية من روسيا إلى أوروبا خلال الفترات 1881- 1914، وتمكن حوالي 30 ألفًا منهم من النفاذ إلى فلسطين، واستغلت الحركة الصهيونية ذلك في التأكيد على فكرة إقامة كيان مستقل لليهود على أرض فلسطين، وأيدت أوروبا الغربية هذه الفكرة.

 

- وكانت قناعة الدول في أوروبا الغربية بهذه الفكرة قائمة على أسس أهمها: الخلفية العقائدية- الحل للمشكلة اليهودية عندها- أهمية هذا المكان وأن يكون لها قاعدة فيه- الأثر التاريخي من الحروب الصليبية- الرغبة في تشكيل الدولة الحاجزة وإضعاف العالم الإسلامي وتفكيكه.

 

- وقد فتحت حملة نابليون على مصر وفلسطين عيون بريطانيا على المنطقة، فافتتحت قنصلية لها في القدس، كلفتها بتوفير الحماية لليهود بشكل عام وليس لليهود البريطانيين فقط، وعندما تمكنت بريطانيا من السيطرة على قبرص 1878م، وعلى مصر 1882 أصبحت الدولة الاستعمارية الوحيدة التي لها قواعد في شرق البحر المتوسط وبالقرب من قناة السويس الشريان الحيوي للمواصلات البريطانية مع مستعمراتها.

 

- كما تكرّست فكرة الدولة الحاجزة في توصية مؤتمر لندن الاستعماري الذي عقد سرًّا في لندن خلال الفترة 1905- 1907 بدعوة من حزب المحافظين البريطاني واشترك فيه عدد من كبار علماء التاريخ والاجتماع والزراعة والاقتصاد والبترول.. إلخ، وناقش سبل تحقيق المصالح الغربية والهيمنة على المنطقة الإسلامية ورفع المؤتمر توصياته إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك كامبل بترمان، وقد أكد فيها أن إقامة حاجز بشري قوي وغريب في منطقة شرقي البحر المتوسط كقوة عدوة لشعوب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية ومصالحها هو التنفيذ العملي العاجل للوسائل والسبل المقترحة.

 

- وقد أدركت الحركة الصهيونية أن مشروعها في إنشاء دولة يهودية في فلسطين لن ينجح إلا برعاية دولة كبرى وحمايتها، لهذا استفادت من التغيرات والتوجهات السياسية للقوى الاستعمارية.

 

وقد أكد هرتزل لوزير المستعمرات البريطاني جوزيف تشمبرلن عندما قابله سنة 1902م ذلك وقال له: إن قاعدتنا يجب أن تكون في فلسطين والتي يمكن أن تكون دولة حاجزة "بحيث تؤمن المصالح البريطانية".

 

مسار الحركة الصهيونية:

- تحولت كلمة صهيونية إلى مصطلح سياسي وإلى حركة سياسية على يد الكاتب النمساوي ناثان بربناوم (1864- 1937) عندما نشر كتابه باللغة الألمانية سنة 1893م "الإحياء القومي للشعب اليهودي في وطنه" وكان قد استخدم لفظ الصهيونية في مقال كتبه سنة 1886 بعنوان التحرر الذاتي.

 

- كان شبتاي زفي (1626- 1676)- وهو يهودي ولد في أزمير وعاش في تركيا- من أوائل من دعا إلى تجديد الهيكل في القدس، وعودة اليهود إلى أرض فلسطين وإقليم الوجه البحري في مصر، ودعا إلى تكوين لجنة تمثل اليهود في 15 بلدًا لاتخاذ الخطوات العملية لهذا المشروع، وأن يتم ذلك بالتنسيق مع فرنسا.

 

- قام الحاخام يهودا القالي (القلعي) (1798- 1878) المولود في سراييفو عاصمة البوسنة، بالدعوة في سنة 1843م إلى عقد جمعية عامة كبرى لليهود، وإقامة صندوق قومي لشراء الأراضي، وإقامة صندوق مماثل لجباية الضرائب من اليهود في سبيل إقامة وطن لهم في فلسطين، كما دعا إلى تشكيل مجلس للحكماء يكون باستطاعته فرض طاعته واحترامه على اليهود.

 

- كان الحاخام زفي هيرش كاليشر (1795- 1874) الذي عاش في بروسيا (ألمانيا سابقًا) ثم في بولندا أحد رواد الصهيونية الكبار؛ حيث نشر كتابه "البحث عن صهيون" في عام 1862م وقد تحدث عن الاستيطان الزراعي اليهودي في فلسطين ودعا إلى تشكيل منظمة تتولى ذلك.

 

- ثم ظهر اليهودي موزس هس (1812- 1875) وهو ألماني بدأ حياته يساريًّا اشتراكيًّا مقربًا من كارل ماركس، وبعد فشل ثورة 1848م في ألمانيا، قام بنشر كتابه "روما والقدس" سنة 1862م، تحدث فيه عن أسس الفلسفة الصهيونية وأن لليهود رسالة لا يستطيعون تحقيقها إلا من خلال نهضة قومية على قطعة أرض هي أرض الميعاد.

 

- ومن رواد الصهيونية الكبار الروسي البولندي ليوبنسكر (1821- 1891) مؤسس وزعيم حركة "أحباء صهيون" وقد أصدر كتابه "التحرر الذاتي" بالألمانية دعا فيه إلى إيجاد قومية يهودية تعيش على أرض فلسطين، كما دعا إلى إقامة منظمة مركزية أو شركة مساهمة لشراء الأرض.

 

- وتعد جمعيات أحباء صهيون إحدى الإرهاصات التي وفرت قواعد واسعة للحركة الصهيونية في شرق أوروبا خاصة، وقد بادر لتأسيس أول جمعية لأحباء صهيون الحاخام صموئيل موهيليفر (1824- 1898) سنة 1882م، ثم توالت فروعها في الانتشار، والتفت حول المفكر الصهيوني ليوبنسكر وانتخبته في مؤتمرها الأول عام 1884م رئيسًا لها، وتجلى عملها في دعم حركة الاستيطان اليهودي وموجة الهجرة الأولى في الثمانينيات من القرن التاسع عشر، وإنشاء المستعمرات الصهيونية الأولى في فلسطين أمثال: بتاح تكفا، ريشيون لازيون، روش بيناه.. إلخ، وكان معظم هؤلاء المهاجرين اليهود من روسيا وبولندا غير أن هذه الجمعيات التي غلب عليها الطابع الديني لم تفلح في تشكيل منظمة عالمية متماسكة، لكن 260 فرعًا لها انضمت للمنظمة الصهيونية العالمية عند إنشائها مما شكل إثراءً كبيرًا للمنظمة.

 

- ويعد تيودور هرتزل (1860- 1904) والد الحركة الصهيونية ومؤسسها الفعلي وهو يهودي مجرى نمساوي ولد في بودابست وبدأ حياته اندماجيًّا (مؤيدًا لحركة الاستنارة "الهسكلاً) لكنه تحول للصهيونية عام 1894م، وفي فبراير 1896م نشر كتابه الدولة اليهودية باللغة الألمانية، ورأى أن إنشاء الدولة اليهودية مسألة قومية، وأنه الجواب الحقيقي لمشكلة اللاسامية، ودعا إلى إقامة جمعية لليهود وشركة يهودية لخدمة ذلك.

 

- وكان يتميز بالشخصية الديناميكية العملية، فانطلق حتى تمكن من إنشاء المنظمة الصهيونية العالمية.

 

- واعتبر أن هذه المنظمة دولة على الطريق، واختلف عن أحباء صهيون في أنه رفض اعتبار أن المشروع الصهيوني يمكن أن ينجح من خلال عملية متقطعة لإنشاء المستعمرات وإنما عبر استقلال سياسي كامل أي بوجود هيئة تمثيلية سياسية لليهود، ثم ربط نجاح المشروع بوجود دعم وحماية من القوى الكبرى- وهو ما يعرف "بالصهيونية السياسية".

 

- انعقد المؤتمر الصهيوني الأول في 29- 31 أغسطس 1897 في مدينة بال بسويسرا بحضور 204 مندوبين من معظم أرجاء العالم (ثلثهم من روسيا)، وتم انتخاب هرتزل رئيسًا والإعلان عن إقامة المنظمة الصهيونية العالمية (w.z.o) ووضع البرنامج الصهيوني العالمي المطلوب تنفيذه وتلخيص هدف الصهيونية في إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين يضمنه القانون العام أي برعاية وقبول عالمي.

 

وتشكلت الأجهزة الإدارية للمنظمة من:

1- المؤتمر الصهيوني: الذي يعد السلطة العليا للحركة الصهيونية ويشارك فيه المندوبون المنتخبون من قبل الأعضاء في مختلف أنحاء العالم، وينعقد مرة كل سنة (ثم أصبح ينعقد كل أربع سنوات) وهو ينتخب رئيس المنظمة والمجلس العام واللجنة التنفيذية.

 

2- المجلس العام: وهو السلطة العليا التي تنوب عن المؤتمر الصهيوني في حالة غيابه.

 

3- اللجنة التنفيذية: وهي قيادة المنظمة ويتم انتخابها من أعضاء المجلس العام (لجنة العمل الكبرى).

 

وقد اتسع الشكل التنظيمي للحركة الصهيونية وتعقد مع مرور الزمن غير أن المؤسسات الأساسية الثلاث ظلت على حالها.

 

وقد ظل هرتزل رئيسًا للمنظمة الصهيونية حتى وفاته في 3 يوليو 1904م وانعقدت في عهده ستة مؤتمرات صهيونية وخلال سنة واحدة من إنشاء هذه المنظمة تضاعف عدد الجمعيات اليهودية المنتمية إليها ثمانية أضعاف، وخلال عهده تم إنشاء البنك الصهيوني (صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار)، والصندوق القومي اليهودي (الكيريت كايمت) الذي يستهدف امتلاك الأراضي، وشركة بنك أنجلو- فلسطين فرعًا للصندوق القومي.

 

وفي سبيل تحقيق دعم سياسي عالمي للمشروع الصهيوني، قام هرتزل باتصالات واسعة شملت قيصر ألمانيا، والسلطان العثماني، وملك إيطاليا ووزراء ومسئولين بريطانيين ونمساويين وروسًا، وبابا روما، فضلاً عن عدد كبير من الشخصيات السياسية وأصحاب البنوك والأثرياء ولم تنفع مقابلاته مع السلطان عبد الحميد الثاني 1 مايو 1901م، فبراير ويوليو 1902م، في إقناعه بفتح باب الهجرة إلى فلسطين؛ حيث أصرّ السلطان على تحديد الهجرة وأن تكون في أجزاء من الدولة العثمانية من غير فلسطين، وأن تكون بإشراف عثماني، وبذلك أدرك أن طريقه إلى فلسطين مسدود ما دام السلطان هناك.

 

وقد اضطر هرتزل بسبب المصاعب العملية التي واجهها إلى التفكير في حلول مؤقتة تعتبر خطوة في اتجاه فلسطين، ففكر في استعمار قبرص لكنه وجه بمعارضة قوية من أحباء صهيون، كما ناقش مع تشمبرلن وزير المستعمرات البريطاني في 1902م مشروع الاستيطان في العريش في منطقة سيناء (كانت مصر تحت الاستعمار البريطاني منذ 1882م) ووافق تشمبرلن مبدئيًّا على الدراسة لكن المشروع واجهته معارضة مصرية وعثمانية قوية فتوقف، وفي عام 1903م عرض تشمبرلن على هرتزل الاستيطان في شرق إفريقيا (مشروع أوغندا) كمرحلة مؤقتة دون التخلي عن فلسطين، ونجح هرتزل في تمرير المشروع في المؤتمر الصهيوني وتقرر إرسال بعثة استكشافية إلى أوغندا لكن تم استبعاد هذا المشروع نهائيًّا بعد وفاة هرتزل في المؤتمر الصهيوني السابع في 1905م وتقرر فيه التركيز على فلسطين فقط.

 

وقد ظهرت مشاريع استيطانية أخرى قبل هذا المؤتمر السابع، مثل الاستيطان في ليبيا والأرجنتين والإحساء (شرق السعودية) وغيرها.. لكن البوصلة ظلت مصوبة في النهاية نحو فلسطين.

 

بعد وفاة هرتزل تبلور داخل المنظمة تياران أو مساران للعمل: مسار عملي يركز على الخطوات العملية للاستيطان في فلسطين وفرض الواقع على الأرض بما يسمى تيار "الصهيونية العملية" ومسار يركز على الدعم السياسي من الدول الكبرى، وإيجاد الدولة الحامية والداعية لإنشاء الوطن القومي، تيار الصهيونية السياسية، وقدم حايين وايزمان (1874- 1952) أطروحته التوفيقية بين الصهيونية السياسية والصهيونية العملية.

 

- انتخب ديفيد ولفسون (1856- 1914) خلفًا لهرتزل خلال الفترة 1905- 1911م في رئاسة المنظمة، وهو من مواليد ليتوانيا لكنه استقر في ألمانيا منذ عام 1881م؛ حيث أصبح رجل أعمال ناجحًا، وحاول التركيز على مسار توفير الدعم السياسي للمشروع لكنه لم يستطع أن يملأ الفراغ الذي تركه هرتزل.

 

- تقدم أحد قيادات المنظمة "دار بورج باقتراح تبني سياسة التغلغل الاقتصادي" المعتمد على العمل الصهيوني بصورة منظمة، وتمت الموافقة عليه وتأسس مكتب فلسطين في يافا سنة 1908م لتوجيه العمل الاستيطاني الزراعي، وأنشئت شركة تطوير أراضي فلسطين، كما بدأ إنشاء مدينة تل أبيب.

 

- ويعد المؤتمر الصهيوني العاشر سنة 1911م نقطة تحول، إذ سيطر تيار الصهيونية العملية على قيادة المنظمة وانتخب أوتو واربورج (1871- 1937)- وهو ألماني- رئيسًا للمنظمة واستمر في رئاستها حتى عام 1921م.

 

- بعد إسقاط السلطان عبد الحميد، وانقلاب حركة الاتحاد والترقي 1908م وهي متساهلة مع اليهود وضعف الدولة العثمانية، ازدادت بصورة كبيرة حركة الهجرة إلى فلسطين وإجمالي من هاجر إلى فلسطين خلال 1882- 1914م نحو 55 ألف يهودي.

 

- كان للحرب العالمية الأولى أثر سلبي على الجهاز الإداري للمنظمة الصهيونية؛ حيث كانت قيادات العمل ومؤسساته موزعة في عدد من الدول التي أصبحت بلدانًا متحاربة، فانقطعت صلة مكتب القيادة في روسيا مع باقي مكاتب المنظمة، كما أن صهاينة وسط أوروبا التفوا حول مكتب القيادة الصهيونية في ألمانيا وبذلوا مساعي مع ألمانيا للضغط على حليفتها تركيا لإقامة الوطن اليهودي في فلسطين (كان في تصورها أن ألمانيا ستنتصر في الحرب).

 

وفي غرب أوروبا وبريطانيا ظهرت مؤازرة الصهيونية لبريطانيا وحلفائها ضد ألمانيا وتركيا (وأثر ذلك على الهجرة لفلسطين فانخفض عدد اليهود من 85 ألفًا سنة 1914 إلى 55 ألفًا سنة 1918م).

 

ثم فقدت قيادة المنظمة في ألمانيا فاعليتها مع تطور أحداث الحرب، وبرز نجم الأستاذ الجامعي الروسي الأصل الدكتور حاييم وايزمن (وكان مقيمًا في بريطانيا) وفرض نفسه كزعيم واقعي للمنظمة الصهيونية وشكل مع رفاقه هناك لجنة سداسية انضم إليها اثنان من اللجنة التنفيذية، وسعى إلى التفاوض مع بريطانيا لتبني المشروع الصهيوني مقابل دعم اليهود لها في الحرب، واستخدام نفوذهم في أمريكا لدفع أمريكا للمشاركة في الحرب إلى جانب بريطانيا، (حيث برز في الوقت نفسه لويس برانديس (1856- 1941) الذي قاد صهيوني أمريكا).

 

ومن خلال الدورين اللذين لعبهما وايزمن وبرنديس والتنسيق بينهما، نجحت المنظمة الصهيونية في استصدار وعد بلفور من بريطانيا في 2 نوفمبر 1917م بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ووافق عليه أيضًا حلفاء بريطانيا في الحرب (فرنسا، وإيطاليا وكذلك أمريكا التي دخلت الحرب في مارس 1917م).

 

ومع نهاية الحرب والاحتلال البريطاني لفلسطين 1918م (واستمر حتى 1948م) استرد المشروع الصهيوني عافيته، وتولي وايزمن القيادة الفعلية للمنظمة (1821- 1946م).

 

وقامت بريطانيا بإدماج وعد بلفور في صك انتدابها على فلسطين والذي أقرته عصبة الأمم سنة 1922م ليصبح التزامًا دوليًّا، كما فتحت بريطانيا أبواب الهجرة والاستيطان اليهودي، وبناء المؤسسات السياسية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية الصهيونية في فلسطين، بل وتوفير الحماية لها، وتساهلت مع التشكيلات العسكرية السرية لليهود الذين أصبحوا دولة داخل الدولة، وفي نفس الوقت حرمان أبناء فلسطين من حقوقهم وسحق مقاومتهم وانتفاضتهم ضد اليهود.

 

وأصبح تحقيق الهدف الصهيوني يعتمد أساسًا- في ظل هذا الواقع- على مدى إقناع الحركة الصهيونية لليهود بالهجرة والاستيطان في فلسطين.

 

- في أبريل 1918م ذهبت لجنة صهيونية برئاسة وايزمن إلى فلسطين وشكلت جهازًا إداريًّا لليهود للإشراف على الجوانب السياسية وأمور الاستيطان والإغاثة والزراعة والتجارة والصناعة والهجرة والتعليم والعمل... إلخ.

 

- في مؤتمر لندن يوليو 1920م أقر تعيين وايزمان رئيسًا للمنظمة، وتقرر إنشاء مكتب مركزي للهجرة اليهودية، وإنشاء الصندوق التأسيسي لفلسطين "إلكيريت هايسود" المختص بشئون الهجرة والاستيطان والتعليم وإنشاء المشاريع الاقتصادية والمؤسسات الاجتماعية.

 

- وفي المؤتمر الصهيوني الثاني عشر سبتمبر 1921م تحولت زعامة وايزمان إلى زعامة رسمية- وبلغ حينها عدد أعضاء المنظمة الصهيونية 770 ألفًا.

 

- كان صك الانتداب البريطاني على فلسطين قد أشار إلى إنشاء "وكالة يهودية" تمثل اليهود بشكل عام، وقامت المنظمة الصهيونية عمليًّا بدور الوكالة خلال 1922- 1929م.

 

وكان رأي المنظمة ألا يقتصر تشكيل الوكالة على المنظمة الصهيونية، ولكن تكون وكالة يهودية موسعة تمثل اليهود من صهاينة وغير صهاينة، مع سيطرتها على التوجيه فيها- مما يساعد على إدخال عناصر يهودية مؤثرة غير منتمية للمنظمة، وأن هذا الشكل يوسع دائرة نفوذ المنظمة وتمثيلها لليهود في العالم كله، كما يمكنها من امتصاص أية معارضة يهودية للحركة الصهيونية.

 

وتم إنشاء الوكالة اليهودية الموسعة سنة 1929م بحيث تتم مناصفة مقاعد مجلس الوكالة (السلطة العليا للوكالة) واللجنة الإدارية (تقابل المجلس العام في المنظمة الصهيونية) واللجنة التنفيذية (تقابل اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية) بين المنظمة الصهيونية وبين اليهود غير المنتمية إليها.

 

وحرصت المنظمة على أن تكون الوكالة أداة طيعة بيدها- عبر مجموعة من الإجراءات والقواعد التي ضمنت ذلك. فهناك رئيس واحد للمنظمة وللوكالة، واللجنة التنفيذية للوكالة هي عمليًّا بيد أعضاء اللجنة التنفيذية الصهيونية.

 

ومن خلال إنشاء هذه الوكالة تم استقطاب عناصر يهودية شهيرة غير أعضاء في المنظمة أمثال: البريطاني هربرت صمويل، والأمريكي لويس مارشال، وألبرت أينشتاين العالم الألماني الذي يحمل الجنسية الأمريكية وغيرهم.

 

وكان الكثير من هؤلاء زعماء سياسيين وعلماء لم يكن من السهل على المنظمة الصهيونية استيعابهم داخلها دون إخلاء مواقع مؤثرة لهم، فكان وعاء الوكالة أفضل وسيلة استيعاب لهم مع توظيفهم بصورة جيدة لخدمة المشروع الصهيوني، واستمرت الوكالة مظلة وأداة للمنظمة الصهيونية، وتزايد الانصهار بينهما حتى أصبحا مع نهاية الحرب العالمية الثانية تعبيرين لشيء واحد.

 

وفي عام 1947م لم تعد المنظمة الصهيونية بحاجة لهذه الوكالة الموسعة كديكور لها، فأصبحا مندمجين كشيء واحد إلى أن أعيد تشكيل الوكالة سنة 1968م.

 

- أصبح للصهيونيين داخل فلسطين تأثير أكبر على المنظمة الصهيونية العمالية وتحديد سياستها، وتمكن التيار العمالي اليهودي بقيادة ديفيد بن جوريون (1886- 1973) من فرض نفسه وتحقيق نفوذ واسع بين يهود فلسطين. وظهر ذلك عندما انُتخب عضوًا في اللجنة التنفيذية في المؤتمر الثامن عشر 1933م، كما أعيد انتخابه سنة 1935م؛ حيث أصبح قطبًا مركزيًّا فيها، وانتخب في 1937م رئيسًا للجنة التنفيذية في فلسطين.

 

- هاجر إلى فلسطين خلال الفترة 1933- 1936م، ما مجموعه 187.671 يهوديًّا، وكان أخطر ما فيه هو نوعية المهاجرين من علماء وفنيين في مختلف التخصصات.

 

- وتوافقت تلك الفترة مع صعود النازية في ألمانيا، وتمكن هتلر من الوصول إلى الحكم واستفادت الحركة الصهيونية من ذلك في دفع اليهود الألمان للهجرة إلى فلسطين، وعقدت مع هتلر اتفاقية سرية لترحيل اليهود "اتفاقية همعفاره" سنة 1933م فهاجرت أعداد كبيرة من اليهود الألمان في مختلف التخصصات الهامة مما أعطى دفعة كبيرة للمشروع الصهيوني.

 

ورغم أن يهود أوروبا عانوا من السياسات الهتلرية النازية ضدهم خلال الحرب العالمية الثانية (1939–1945) إلا أن المشروع الصهيوني في فلسطين كان هو المستفيد الأول إذ وجدت الأنظمة الصهيونية مبررًا ودافعًا قويًّا للدعاية للهجرة إلى فلسطين، وتمكنت من تضخيم صورة المعاناة اليهودية وجعلها عقدة أساسية عند الغرب لدعم مشروعها.

 

* قامت الحركة الصهيونية بنقل مركز ثقلها خلال الحرب العالمية الثانية من لندن إلى واشنطن (أمريكا) التي أصبحت لها القوة الأقدر على رعاية المشروع الصهيوني، والتي خرجت بعد الحرب كأقوى قوة بشرية في العالم.

 

وكان مؤتمر بلتيمور الصهيوني في 8 مايو 1942م العلامة الفارقة لنقل مركز الثقل، وتمَّ فيه صياغة السياسة الصهيونية؛ حيث ركزت على إقامة الدولة اليهودية، وإقامة جيش يهودي ورفض الكتاب البريطاني الأبيض لسنة 1939م، وقام الأمريكيون بالضغط على بريطانيا بشأن الكتاب الأبيض، فأعلن وزير الخارجية البريطانية بيفن في 14 نوفمبر 1945م التخلي عن الكتاب الأبيض وفتح باب الهجرة اليهودية على مصراعيه.

 

وعندما أعلنت بريطانيا عن عزمها على مغادرة فلسطين، نشطت أمريكا وروسيا في الضغط على الأمم المتحدة لاتخاذ قرار بتقسيم فلسطين، فكان قرار 181 في 29 نوفمبر 1947 بتقسيم فلسطين لدولتين يهودية 54% من الأرض، وعربية 45% من الأرض، و1% منطقة دولية.

 

وبذلك اتخذت الدولة اليهودية شرعية دولية، وبناء عليه أعلن اليهود دولتهم "إسرائيل" في مساء 14 مايو 1948م، وقامت على الفور بالتوسع بما لقيته من دعم أمريكي روسي غربي لتستولي على 77% من أرض فلسطين، وتشرد 800 ألف فلسطيني من وطنهم.

 

* ظل وايزمان رئيسًا للمنظمة الصهيونية العالمية حتى سنة 1931م ثم تولى الرئاسة ناحوم سوكولوف 1931- 1935م ثم عاد وايزمن للرئاسة حتى سنة 1946م، وكان المؤتمر الصهيوني الـ22 هو الذي انعقد في 9 ديسمبر 1946م هو آخر مؤتمر صهيوني قبل إنشاء الكيان اليهودي، وبلغ عدد أعضاء المنظمة الممثلين في المؤتمر مليونين و159 ألفًا، ورغم ذلك فإن المنظمة فشلت في انتخاب رئيس لها بسبب الخلافات الداخلية وخصوصًا بين بن جوريون، ووايزمن وقام المجلس الصهيوني العام بتعيين لجنة تنفيذية ائتلافية برئاسة بن جوريون الذي تزايدت هيمنته الفعلية على المنظمة.

 

وخلال الفترة 1946– 1956م مثل بن جوريون زعامة الأمر الواقع للمنظمة دون أن ينتخب رئيسًا رسميًّا لها، ومع إعلان الدولة اليهودية أصبح بن جوريون أول رئيس لوزرائها، واستدعى وايزمن ليكون رئيسًا فخريًّا للدولة اليهودية.

 

الحركة الصهيونية بعد قيام دولة إسرائيل:

* مع قيام الدولة اليهودية أصبح هناك تياران (اتجاهان) داخل المنظمة الصهيونية هما صهيونيو الداخل (أي داخل فلسطين) وصهيونيو الخارج كان بن جوريون وتيار صهيونيي إسرائيل، يعدون المنظمة مجرد سقالة أو وسيلة حققت هدفها ولم يعد لها لزوم بعد إقامة الدولة، وأن الصهيونية الحقة هي التي تعني الهجرة والاستيطان في فلسطين، وركز هذا التيار على مركزية إسرائيل في الحياة اليهودية، واستقلالها عن هيمنة المنظمة الصهيونية.

 

أما تيار صهيونيي الخارج وخصوصًا في أمريكا فكان يرفض هذا التفسير للصهيونية وقصره على الهجرة لإسرائيل، وأن دور المنظمة لم ينته، فهي قادرة على دعم الدولة الصهيونية بوجودها في الخارج، كما أنه لا بد للمنظمة من المشاركة في صنع القرار الداخلي والخارجي لدولة إسرائيل وبالذات في مجال تمثيل يهود الشتات والتحدث باسم إسرائيل سياسيًّا.

 

ولم تنكسر حدة التوتر بين الطرفين إلا سنة 1968م عندما حسمت المعركة لصالح تيار صهيوني الداخل، واستقال ناحوم جولدمان من رئاسة المنظمة، وأمكن التوصل حتى في أثناء التوتر إلى حلول توفيقية، وظل الجميع ناشطين في دعم المشروع الصهيوني، لكن أصبحت المنظمة الصهيونية سنة 1968م أداةً في يد إسرائيل، وقد عقدت المنظمة مؤتمرها الـ23 لأول مرة في القدس عام 1951م وأقر برنامج القدس، وأعاد المؤتمر تحديد مهام المنظمة في توطيد دعائم إسرائيل وتشجيع الهجرة لدولة إسرائيل، وتنمية وحدة الشعب اليهودي وتطوير التنسيق بين المنظمة وإسرائيل، وإعطاء المنظمة وضعًا قانونيًّا خاصًّا في الدولة العبرية بحيث تتابع أعمال الاستيطان.

 

وقد انتخب جولدمان رئيسًا للمنظمة سنة 1956م وظل في منصبه حتى 1968م واعتبر أن ازدهار الخارج أمر هام ليشكلوا الدرع الواقية لإسرائيل والداعم لها.

 

وبعد المؤتمر الصهيوني الـ27 والذي عقد في القدس في 9- 19 يونيه 1968م تكرست المنظمة كتابع وأداة للكيان الصهيوني وخفت حدة نقدها وشكواها وباستقالة جولدمان من رئاسة المنظمة في ذلك المؤتمر لم يتم انتخاب رئيس للمنظمة بعد ذلك، وحتى آخر مؤتمر عقدته في ديسمبر 1997م، واكتفى باختيار رئيس للجنة التنفيذية؛ حيث تولى هذا المنصب لويس بنكوس حتى وفاته 1973م وخلفه أرييل دولستين رئيسًا بالوكالة إلى أن انتخب بنحاس سابير في 1974م وحتى وفاته 1975م ثم عاد دولستين رئيسًا بالوكالة حتى انتخاب يوسف الموحي في 1976 وعاد دولستين للمرة الثالثة رئيسًا بالوكالة سنة 1977 وتم تثبيته رئيسًا رسميًّا في المؤتمر الصهيوني 1987- 1994 ثم خلفه أبراهام بورغ 1994- 1997 ثم تولى الرئاسة بعده سالاي مريدور منذ ديسمبر 1997م.

 

كان قد تقرر في المؤتمر الـ27 (1968) إعادة فصل الوكالة اليهودية عن المنظمة الصهيونية وبدأ تنفيذ ذلك فعليًّا منذ 1971م غير أن الفصل ظل شكليًّا؛ لأنه تركز أكثر على توزيع الاختصاصات، بينما ظل رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة هو نفسه رئيس الوكالة، وتولت الوكالة اليهودية التركيز على جمع التبرعات والهجرة والاستيطان.

 

أما المنظمة الصهيونية فتولت شئون التربية والإعلام الصهيوني والثقافة، ويمثل يهود الكيان الصهيوني ويهود أمريكا نحو ثلثي مندوبي المؤتمر الصهيوني (38% ليهود الكيان الصهيوني، و29 % ليهود أمريكا) والباقي ليهود العالم ويمثل مندوبي الكيان الصهيوني؛ حيث نسبة تمثيل أحزابهم في الكنيست الإسرائيلي أما باقي البلاد فتختار مندوبيها وفق الشكل الذي يناسبها.
ويبلغ عدد أعضاء المنظمة حوالي 10% من يهود العالم.

 

الأيديولوجية الصهيونية:

- ليست الصهيونية مقصورة على اليهود وحدهم، إذ إن هناك تيارات كبيرة وقيادات مؤثرة في الأوساط المسيحية وخصوصًا البروتستانت تؤمن بالصهيونية وتسعى لخدمتها وإنجاح مشروعها، وظهر ذلك واضحًا في بريطانيا وأمريكا.

 

- هناك قلة من اليهود لا يؤمنون بالصهيونية من أمثال جماعة "ناتوري كارتا" التي ترفض الاعتراف بدولة إسرائيل لأنهم يرون ضرورة انتظار ظهور المسيح الخاص باليهود، وأن عودة اليهود إلى فلسطين مرتبطة بهذه الإرادة الربانية ولا يجوز التعجيل بها، وإن كانوا من الناحية العملية يدعمون الكيان الصهيوني.

 

- الفكر الصهيوني أصبح يشمل تيارات ومدارس متعددة، لكنه كان قادرًا على استيعابها وتوجيهها دائمًا لصالح الفكرة الصهيونية.

 

إن أول حاخام أكبر لليهود في فلسطين إبراهام إسحق كوك (1868- 1935م) كان يؤمن أن الحركة القومية (أو الصهيونية بتعبير آخر) على الرغم من اتجاهاتها العلمانية البادية على أتباعها فإنها في النهاية ليست إلا دينية في جوهرها وحقيقتها، وأنها تصدر أصلاً عن نزعة دينية هي الصفة الراسخة لليهود التي اختصوا بها بين الأمم وأنهم الشعب المقدس.

 

كما نجد رؤية اليهود كشعب مقدس تتكرر في مقولات هرتزل الليبرالي، وبن جوريون العمالي الاشتراكي، وبورخوف الشيوعي.

 

بل إن هذه القداسة لأنفسهم وشعبهم وضرورة خدمته ليست جزءًا فقط من عقيدتهم بل هي أكبر حتى من إيمانهم بالله والتزامهم بأحكام التوراة، فإن تنكر أحدهم لربه أو تعاليم دينه فإنه لا يفعل شيئًا كبيرًا في نظرهم ما دام هذا اليهودي على ولائه وانتمائه لهذا الشعب المقدس، وهو بذلك يقوم بمهمة دينية وإن لم يكن متدينًا- لأن الشعب أصبح مصدر القداسة، وأصبح الدين اليهودي هو التعبير الديني عن روح الأمة اليهودية وليس العكس والحركة الصهيونية قدمت نفسها امتدادًا لليهودية وليس نقيضًا لها.

 

وكان ماكس نوردور القيادي الصهيوني الكبير وكان مقربًا إلى هرتزل، يعد ملحدًا ولكنه اعتبر الدين مصدرًا لطاقة بناء كاملة.

 

وكان جابوتنسكي يعد ملحدًا أيضًا وهو مؤسس الصهيونية التنقيحية والأب الروحي لبيجن وتجمع الليكود.

 

هناك أربعة مدارس أو اتجاهات صهيونية كبيرة، تتفرع عنها اتجاهات وانقسامات أخرى ولكن الحركة الصهيونية أثبتت مرونة في استيعاب هذه التيارات التي يظهر عليها التناقض كما أثبتت التيارات إمكانية التعايش في أجواء الخلاف، بل والاستفادة من تناقضاتها في خدمة المشروع الصهيوني، وظلت الأفكار السياسية (اشتراكية- ليبرالية- شيوعية.. إلخ) مضامين فكرية مضافة إلى بنية الأيديولوجية الصهيونية يمكن حذفها أو الاستغناء عنها أو عن بعضها عند الحاجة دون أن تتأثر البنية الأساسية للأيديولوجية الصهيونية، أي أنها تمثل صهيونية توفيقية فهي سياسية عندما تتحرك دبلوماسيًّا لتنال التأييد، "وعملية" عندما تركز على تواجد المستوطنين وتوحيدهم و"تنقيحية ومراجعة" عندما تجمع الضرائب وتشجع الرأسمال اليهودي، وعمالية اشتراكية عندما تهتم بالتنظيمات العمالية وتوفير المساعدات لها، وتعبر عن فلسفة قومية "لا دينية" وتوظفها لصالحها، وتقدم نفسها على أنها التعبير الوحيد عن اليهودية والمدافع عن التراث اليهودي "دينية".

 

أ- المدرسة الأولى: الصهيونية السياسية، وزعيمها الأول هرتزل، وهي تركز في سعيها إلى تحويل المشكلة اليهودية إلى مشكلة سياسية دولية، ومن أهم دعاة هذه المدرسة جاكوب كلاتزكين (1882- 1948) وماكس نوردو.

 

ويتفرع منها الصهيونية التنقيحية أو المراجعة، وهي تغلب الجانب القومي على الجانب الديني، وهي ذات توجهات ليبرالية ورأسمالية، ويعد فلاديمير جابوتنسكي المنظر الأساسي لها ويمثلها بيميه وشايد ونتنياهو... إلخ.

 

ب- المدرسة الثانية: هي الصهيونية العمالية "الاشتراكية" وهي ترى أن التركيب الاجتماعي والحضاري لليهود مختلف عن غيره، وتركز على الأسلوب الاشتراكي لتحقيق الأهداف الصهيونية ومن أمثلة هذه المدرسة: بوروخوف (1881- 1917) الذي حاول توظيف المنهج الماركسي لخدمة الصهيونية، وعلى حتمية الحل الصهيوني لتزويد الطبقات اليهودية بقاعدة إنتاج (يقصد بها أرض فلسطين)، ويدخل ضمنها تيار ناحام سيركين (1868- 1924) الذي يركز على العنصر الأخلاقي ووحدة الرؤية اليهودية.

 

وكذلك تيار أهارون جوردون (1856- 1922) الذي ركز على الجانب النفسي، وعلى اقتحام الأرض والعمل، وقد شاعت أفكار سيركين وجوردون بالذات في الأوساط العمالية اليهودية، وكان من نتاجه تأسيس الهستدروت والكيبوتسات وهذا التيار قاد الكيان الصهيوني من 1948 وحتى 1977 من خلال حزب الماباي (وتكتل حزب العمل) ومن قياداته بن جوريون، وموشيه شاريت وجولدا مائير وليفي أشكول وشمعون بيريز.

 

جـ- المدرسة الثالثة: الصهيونية الدينية: وهي تغلب الجانب الديني على الجانب القومي، وتسعى لتطبيق الشعائر اليهودية والاحتكام للتوراة وهي قسمان:

قسم يرى أن الصهيونية السياسية رغم علمانيتها الظاهرة إلا أنها ستسهم في النهاية في خدمة القيم الدينية، وقد انضم هذا القسم للمشروع الصهيوني منذ بدايته، ومن رواده الأوائل الحاخام كاليشر، وكذلك إسحق كوك وقد أخذ شكله المنظم سنة 1902م بتأسيس حركة مزراحي "مركز روحي" ولخصت شعارها في "التوراة والعمل" ويمثل حزب المفدال "الحزب القومي الديني" نموذجًا له، ومن قادته حايين شابيرا ويوسف بورغ وقد انشق عنه سنة 1981م حزب تامي.

 

أما القسم الثاني من الصهيونية الدينية، فقد رفض الصهيونية في البداية بل وحاربها باعتبارها مخالفة لتعاليم اليهودية وتمردًا على الإرادة الربانية، وعدم الانتظار لظهور مسيح اليهود، وبداية هذا التيار كان سنة 1909م.

 

وأنشأ لنفسه حزب أغودات إسرائيل سنة 1912م، ولكنه مع مرور الوقت تبنى عمليًّا الهجرة والاستيطان وتعاون مع المؤسسات الصهيونية ورأى أن وعد بلفور يتسق مع الوعد الإلهي وسحب معارضته لقيام الدولة اليهودية ويشارك في الانتخابات، لكن في الوقت نفسه يرفض الاعتراف من ناحية دينية بإسرائيل كدولة يهودية، ويرفض خدمة شبانه في الجيش الإسرائيلي.

ومن أمثلة رموزه إسحاق ليفين، ومن عباءته خرجت أحزاب شاس 1984م.

 

د- المدرسة الرابعة: الصهيونية الثقافية: وهي ترى أن الخطر الأكبر الذي يهدد استمرار اليهودية هو فقدان الإحساس بالوحدة والترابط بين طوائف اليهود وضعف تمسكهم بقيمهم وتقاليدهم، وتركز على أن مصدر هذه القيم هو التراث اليهودي وتاريخ اليهود أي أنها ركزت على الإحساس باليهودية، وقداسة الشعب اليهودي كمسار للحفاظ واستمرار اليهودية.

 

وقدمت القومية اليهودية في هيئة رومانسية يطلق عليها البعض صهيونية عضوية، وأبرز دعاتها هو آشر جينزبرغ (1856- 1927) المشهور باسم آحاد هاعام، وكذلك مارتن بوبر.

 

هذه المدرسة ليس لها أحزاب محددة، وإنما فكر ثقافي يعبر عن نفسه بالاهتمام باللغة العبرية والثقافة والقيم اليهودية.

 

حول طبيعة المعركة بين اليهود والأمة الإسلامية:

نشير باختصار إلى بعض النقاط في هذا المجال:

- الصهيونية ليست هي الديانة اليهودية نفسها، ولكن الصهيونية مشروع يهودي استخدم الدين والسياسة لتحقيق مصالحه الدينية والسياسية، وله مرتكزات عقائدية يستند إليها ويستخدمها ويوظفها لحاجته ومصلحته.

 

ويجمع داخله كل الأطياف العلمانية واليسارية والدينية بكل مذاهبها وحتى الإلحادية، منطلقه الأساسي هو قدسية الشعب اليهودي والانتماء إليه، فكثير من اليهود يعملون لمصلحة الصهيونية ولمصلحة الدولة اليهودية، بالرغم من أنه غير متدين بل قد يكون فاسدًا ومتحللاً حسب المعايير الدينية اليهودية، وإنما يفعل ذلك بدافع الانتماء القومي والعاطفة اليهودية المتأصلة داخله، فالانتماء القومي عندهم هو انتماء ديني أساسًا لأن قومية اليهودي هي دينه.

 

إن هذا الصراع بين الدولة الصهيونية وبين أمة الإسلام ليس كصراع صاحب أرض مع محتل غاصب، وإنما في جوهره معركة عقائدية.. معركة حضارية، خاصة بالمصير والوجود. وذلك بسبب:

أولاً: من ناحية العدو:

1- طبيعة العدو ومرتكزاته العقائدية.

2- ما يحمله العدو من إرث تاريخي مليء بالعداء والخصومة.

3- ما صاحب النشأة من أهداف تستهدف تفكيك الأمة الإسلامية وإضعافها.

4- أنها مدعومة التأييد الغربي المسيحي ذي البعد العقائدي، وأصبحت تمثل امتدادًا للحروب الصليبية، وقد صرحوا بذلك في أكثر من موقف.

 

ثانيًا: من ناحية الأمة الإسلامية:

1- بسبب طبيعة الأرض التي هي أرض مقدسة مباركة في نظر المسلمين، وبها مقدساتهم.

2- طبيعة العقيدة الإسلامية التي ينطلق منها المسلم ليواجه العدوان على دينه ومقدساته.

فالمعركة حسب المفهوم الإسلامي يجب أن تكون عقائدية مستندة إلى الإيمان والجهاد في سبيل الله، بغض النظر عن طبيعة الغاصب أو خلفياته القومية والعقائدية فاحتلال أي أرض للمسلمين من أي عدو كان يستوجب الجهاد ويعتبرها الإسلام معركة عقائدية.

3- القرآن الذي أشار لهذا الصراع وطبيعة اليهود فيه حتى يوم الساعة.

 

* ويجب أن يكون واضحًا أن الأمة الإسلامية عندما تقاتل اليهود فإنها لا تقاتلهم لكونهم مجرد يهود، وإنما لأنهم معتدون مغتصبون يستهدفون الإسلام وأمة الإسلام، فاليهود كمنتمين للديانة اليهودية- وغيرهم من أهل الأديان- لهم أحكامهم المتعلقة بأهل الذمة في الإسلام، فما داموا مسالمين غير معتمدين على سلطان الدولة فلهم الأمان وحماية دولة الإسلام.

 

ولكنهم عندما يحتلون أرضًا إسلامية، يصبح من الواجب الشرعي والقانوني والإنساني قتالهم ورد عدوانهم وتحرير كامل الأرض التي اغتصبوها.

-----------

* عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين.