مقدمة:

إن المشروع الإسلامي الذي أحياه وجدده الإمام الشهيد، ما زال مستمرًّا، وسيظل بإذن الله ليحقق أمل الأمة الإسلامية ويواجه التحدي العالمي، بقدم ثابتة ورؤية متكاملة.

 

ونحتاج أحيانًا إلى إلقاء بعض الضوء على جوانب ومجالات جاهد فيها الإمام الشهيد، ووضع لها مسارات وإستراتيجيات؛ وذلك لنتعرف بدرجة أكبر على أبعاد المشروع الإسلامي، وعلى وسائل وميادين العمل الدعوي، وعلى جوانب مـن الإنجاز العملي تجاه قضايا وأحداث هامة.

 

وهذه الدراسة الموجزة لا تعني أنها قد ألمت وأحاطت بكل الحقائق والأبعاد، ولكنها مجرد إلقاء لضوء بسيط، وسيبقى الأمر في حاجة إلى مزيد من إلقاء الضوء، وكشف جميع الحقائق والأعمال؛ أداءً لأمانة الدعوة في حقها علينا وحق الأجيال القادمة في معرفة تاريخها.

 

وهو يدخل ضمن سلسلة: "المفاهيم الإسلامية في مجال الدعوة".

والله الموفق وهو الهادي لسواء السبيل.

 

نموذج لمواجهة الإمام البنا للضغوط والأزمات

* إن الراصد لأسلوب الإمام البنا وطريقته في مواجهة الصعاب والضغوط، وفي التعامل مع الحكومات أو مختلف الأعداء، ليدرك مدى عمق رؤيته ومدى براعته وحكمته.. كان الإمام الشهيد يدرك تمامًا أن الأنظمة والحكومات في عدائها للدعوة والجماعة لا تتحرك من دوافع ذاتية فقط، وإنما تخضع للتأثير والتوجيه الأجنبي الذي يستهدف السيطرة على هذه البلاد وإنفاذ مشروعها ومخططها، وأهدافها الحالية والمستقبلية.

 

وأن هذه القوى عندما تضغط أو تدفع وتحفز هذه الأنظمة التي تحولت إلى أدوات رخيصة في يد الأجنبي- لضرب الجماعة- فإنها لا تبالي برد فعل الشعب تجاهها أو بالأثر السلبي الذي يعود عليها أو على الوطن ككل.

 

ولهذا كان الإمام الشهيد يحرص على ألا يستعجل الصدام والمواجهة أو يلجأ إلى الاستفزاز، بل وعند المواجهة لا يوسع من مساحتها ولا يصعّد من مراحلها، ولا يمكنهم من تصفية الجماعة بردود أفعال غير متزنة أو مدروسة، بشرط ألا يؤثر ذلك على جوهر العمل والحركة.

 

وإذا فُرضت على الجماعة هذه المواجهة أو ذلك الصدام، واجهه الإمام بصبر وثبات وحرص على استمرار العمل بوسائل شتى، وتحقيق تماسك الجماعة والثبات على الأهداف والمبادئ مهما حدث.

 

* عندما خرجت المظاهرات من الأزهر بقيادة الإمام الشهيد تجاوبًا مع القضية الفلسطينية ارتفعت بعض الشعارات التي تندد بالملك وتهتف بسقوطه، فوجههم الإمام أن يهدف بعضهم بعدها بـ"يحيا الملك" وتمت المظاهرة وحققت أهدافها، وبذلك استطاع أن يلطف من جو الاستفزاز الذي قد سببته بعض الشعارت، ليواصل بعدها العمل الجماهيري، وحشد الشعب لتأييد القضية الفلسطينية.

 

* كما كان الإمام يحرص على أن يبقى هناك باب مفتوح، مع القوة المعارضة والمنافسة، ومع الحكام، حتى مع ألدِّ أعداء الدعوة ممن ينتسبون إلى الوطن.. وذلك ليتمكن من إرسال الرسائل التي تحقق مصلحة الدعوة وتقلل من حدة العداء والاستعداء، كما يمكن عن طريقها نزع فتيل بعض الأزمات أو تأجيل حدوثها أو حتى تخفيفها إذا حدثت، مما يحقق مساحة أوسع للدعوة وتهدئة للأجواء حولها، فالدعوة تنمو تنطلق في الجو الهادئ المستقر، وجهود الإصلاح تكون ثمرتها أسرع في تلك الأحوال الهادئة.

 

* كان الإمام حريصًا على فتح قنوات اتصال عن طريق عناصر متعاطفة أو وسيطة تحب التفاهم مع الجماعة، أو قادرة على حمل رسالة محددة، لجميع القوى التي حكمت البلاد في هذه المرحلة.

 

وعندما ازداد الضغط على الجماعة في محنة 1948، وكان يعلم جيدًا الضغط الخارجي، وأن النظام والملك يستهدف الجماعة ويستهدف قتله، استمر يحاول فتح قنوات الاتصال وتهدئة الأحوال وإرسال الرسائل حتى آخر لحظة، وذلك لتهدئة الضغط والرد على الأسباب الواهية التي افتعلوها لضرب الجماعة، وليس ذلك خوفًا أو جزعًا وإنما لصالح الدعوة والتفافًا حول المعوقات والضغوط.

 

والإخوان مع ذلك لا يهابون المعتقلات والسجون أو يساومون بها على دعوتهم أو يجعلهم ذلك يحجمون ويتأخرون، وإنما ميزان الفصل في هذا هو متطلبات الخطة ومستهدفاتها، والحرص على مصلحة الدعوة ومراعاة الضوابط الحاكمة في تلك المرحلة، ويحتملون كل أذى في سبيل دعوتهم.

 

* والإمام الشهيد في حركته ودعوته لا ينطلق من مجرد رؤية محدودة أو رد فعل لأحداث، وإنما كانت له رؤيته الإستراتيجية وتخطيطه بعيد المدى وضوابطه وتوجهاته الحاكمة لخطواته وحركته ووسائله.

 

ففي الوقت الذي كانت الأحزاب والقوى الوطنية مفتونة بتشكيلاتها العسكرية المسماة بالقمصان الخضراء والزرقاء والحمراء.. الخ، وتقوم باستعراضاتها وفرد عضلاتها وسطوتها، وتفرح بتهليل فئات من الشعب لها والحديث عن قوتها، رفض الإمام الشهيد أن يجاريها في ذلك رغم المغريات وحماس الأفراد، وكان أن أصر على تشكيل فرق الكشافة والجوالة بالشورت والقميص الكاكي وبالشارات المتعارف عليها في نظام الكشافة.

 

وقد كان رحمه الله موفقًا في ذلك، فبعد عدة سنوات تم حل تلك التشكيلات العسكرية بقرار نهائي، وبقيت جوالة وكشافة الإخوان في الميدان لأنه لم يكن ينطبق عليها ذلك، وهي أيضًا تشكيل رسمي معترف به دوليًّا.

 

* وعندما ضغطت عليه مجموعة من الأفراد بالجماعة بشأن اتخاذ مواقف عنيفة واللجوء إلى بعض مظاهر القوة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومجاراة بعض الأفعال التي صدرت من تجمعات وقوى أخرى مثل مصر الفتاة، رفض هذا النهج لأنه خروج على الإستراتيجية والضوابط الحاكمة، مما تسبب في خروج وانشقاق تلك المجموعة من الشباب التي عرفت بشباب محمد، ثم ما لبثت الأحداث أن احتوتها واستوعبتها، وأثبتت الأيام مدى عمق رؤية الإمام الشهيد.

 

* وفي مذكرات الدعوة والداعية يذكر الإمام الشهيد أول معركة مواجهة مع الإدارة الأجنبية بشأن المسجد الذي تم إنشاؤه في شركة الجباسات بالإسماعيلية وانتداب الشيخ محمد فرغلي رحمه الله لإدارة المسجد والتدريس فيه، فقامت تلك الإدارة بمحاولة إقصاء الشيخ فرغلي واستبداله بآخر من عندها حتى لو تطلب الأمر غلق المسجد، وذلك لمواجهة تأثيره الدعوي والإصلاحي على عمال الشركة.. ونرى في هذه الواقعة كيف أدار الإمام هذه المواجهة ببراعة واقتدار، فقد تمسك الشيخ فرغلي والإخوان معه بمكانه وعمله بالمسجد، وتصاعد الأمر حتى وصل إلى محافظ القنال الأجنبي ومأمور الإسماعيلية، وهددوا باستخدام القوة، فلم يتراجع الشيخ فرغلي وتجمهر عدد كبير من العمال، وأمسك الإمام الشهيد بجميع الخيوط، مع التأكيد على صلابة الموقف فاتصل بالعضو المصري الوحيد في مجلس إدارة الشركة حيث سافر له الإمام لمقابلته بالقاهرة وناقشه في الأمر رغم عدم تجاوبه معه وكذلك قابل مدير الشركة الأجنبي، وأوضح له بأسلوب هادئ نواحي خطئه وأن المشكلة ليست في المسجد وإنما في أسلوب معاملتهم للعمال. وتعامل كذلك مع المأمور فأوضح له خطورة تصعيد الأمر وأن العواقب قد تسوء إذا حدث رد فعل من العمال الغاضبين، ثم طرح الإمام الشهيد حلاًّ للأزمة تفاوض معهم عليه، وبعد أخذ ورد تم الاتفاق على أن يبقى الشيخ فرغلي شهرين حيث هو وتقوم الشركة بتكريمه عند انتهاء هذه المدة وأن تطلب رسميًّا من الإخوان أن يحل محله واحد من المشايخ، وأن تضاعف للشيخ الجديد راتبه.. الخ.

 

وبذلك نجح الإمام في إدارة هذا الصراع وحقق كل أهدافه كاملة، مع بعض التنازلات البسيطة الشكلية التي لا تؤثر وأخذ مقابلها مكاسب كثيرة.

 

وهذا مجرد نموذج فحياة الإمام وجهاده مليئة بالكثير من تلك المواقف.

 

* كما كان الإمام الشهيد يراعى في حركته ونشاطه أن يكون مظهر الجماعة أقل من حقيقتها، وأن يكون تقدير الأعداء لمدى قوتها أقل من الحقيقة والواقع، وألا تنخدع الجماعة بالظواهر عن حقائق الأحداث، فللدعوة ميزان غير ميزان الآخرين ورؤيتهم، ليس ذلك تهوينًا لشأن الدعوة وهيبتها، وإنما في هذه المرحلة من تربص الأعداء بها، يستهدف الإمام من ذلك أن يقلل من تحفز الأعداء ضدها ومسارعتهم إلى ضربها، أو يهدئ من شدة الضربات الموجهة إليها.

 

* لقد وافق الإمام على التنازل عن الدخول في الانتخابات عام 1942 وركز على الحركة بهدوء والانتشار العملي بين الجماهير رغم توتر الإنجليز وتشديد قبضتهم على البلد وإعلان الأحكام العرفية، ولم يتراجع الإمام في ذلك الجو عن مبادئ دعوته أو أن يفصل بين الدعوة والسياسة، وليراجع من شاء رسالة المؤتمر السادس عام 1941 وهي تؤكد على نفس المبادئ والأهداف.

 

وما أن وضعت الحرب أوزارها حتى كانت الجماعة قد وصلت لمرحلة جديدة من القوة والانتشار لم يكن يتصورها الآخرون.

 

* لكن يحدث في بعض الأحيان والمواقف، أن يظهر للآخرين مدى قوة الجماعة مثلما أدرك الأعداء في معارك فلسطين، ورأوا من بطولات الإخوان والنماذج العالية التي قدموها في الثبات والإقدام وحسن التخطيط ما أزعجهم بشدة، ورغم هذا لم يستخدم الإمام هذه القوة في مواجهة السعديين عندما حاربوا الجماعة وسجنوا الكثيرين من أفرادها.

 

* وهذا الأمر لا يجعل الإخوان يغترون بفضل الله عليهم أو يسارعون للتحدي قبل الأوان، أو يكون هذا مبررًا للتخاذل والقعود، بل يحرص الإخوان أن يطمئنوا المنزعجين والمتخوفين ولا يخرجهم الإنجاز وأقوال الناس، عن إستراتيجيتهم وضوابط حركتهم وخطتهم الحكيمة.

 

* وإذا استحكم شيء في مواجهة الدعوة أو أظلمت الدنيا من حولهم لم يفقد الإخوان ثقتهم ولم تهتز خطواتهم، بل أحسنوا التوكل على الله ولجأوا إلى الدعاء والاستغفار وطلب العون من الله، وحرصوا على دعاء السحر وقيام الليل، فهذا هو باب النجاة والفلاح بعد استفراغ الجهد من الأخذ بالأسباب (..... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ....) (الطلاق).

--------------

* عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين