مقدمة:

إن المشروع الإسلامي الذي أحياه وجدده الإمام الشهيد، ما زال مستمرًا وسيظل بإذن الله؛ ليحقق أمل الأمة الإسلامية، ويواجه التحدي العالمي، بقدم ثابتة ورؤية متكاملة.

 

ونحتاج أحيانًا إلى إلقاء بعض الضوء على جوانب ومجالات جاهد فيها الإمام الشهيد، ووضع لها مسارات وإستراتيجيات؛ وذلك لنتعرف بدرجة أكبر على أبعاد المشروع الإسلامي، وعلى وسائل وميادين العمل الدعوي، وعلى جوانب مـن الإنجاز العملي تجاه قضايا وأحداث مهمة.

 

وهذه الدراسة الموجزة لا تعني أنها قد ألمت وأحاطت بكلِّ الحقائق والأبعاد، ولكنها مجرد إلقاء لضوء بسيط، وسيبقى الأمر في حاجة إلى مزيد من إلقاء الضوء، وكشف جميع الحقائق والأعمال؛ أداءً لأمانة الدعوة في حقها علينا وحق الأجيال القادمة في معرفة تاريخها.

 

وهو يدخل ضمن سلسلة: "المفاهيم الإسلامية في مجال الدعوة"، والله الموفق وهو الهادي لسواء السبيل.

 

الإمام البنا واستخدام القوة من خلال رسالة المؤتمر الخامس:

* رفض الإمام الشهيد بوضوح استخدام القوة والعنف ضد الحاكم أو الحكومة، وبذلك أخذ بمذهب السلف بعدم الخروج على الحاكم المسلم عند انحرافه بالسيف، كما جاء في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد سأله الصحابة أفلا نقاتلهم، فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ما صلوا"، وفي رواية "..ما أقاموا فيكم الصلاة" وفي رواية" .. إلا أن تروا كفرًا بواحًا.." هذا مع القيام بواجب النصح للحاكم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بضوابطه الشرعية، والصبر عند ذلك عما قد يصيبهم، والعمل للإصلاح الشامل في المجتمع، وامتلاك آلياته حتى يتم التغيير بالأسلوب السلمي، متذكرين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ".. سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله"، وكذلك القاعدة الشرعية لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأكدّ هذا النهج تاريخ الإخوان ورسائلهم وصبرهم إزاء ما حلَّ بهم من قتل وتشريد، ومصادرة وسجن وتعذيب.

 

* إن ألفاظ الإمام الشهيد واضحة في هذه المسألة، خاصة في رسالة المؤتمر الخامس، بالرغم من أن البعض حاول أن يحملها غير ذلك، فهو يرفض تمامًا استخدام القوة داخل المجتمع أو في مواجهة الحاكم، ويقول عن الثورة (المرتبطة بالتخريب والفوضى)– وهي أقوى مظاهر القوة– إنها ليست من وسائل الجماعة، ولن تكون، ولا تفكر حتى فيها، وإذا حدثت في المجتمع فستكون من غيرهم وليست منهم.

 

* وهو يتحدث في رسالة المؤتمر الخامس عندما أشار إلى قوة الساعد– عن بيان قاعدة عامة وحقيقة اجتماعية، وليس توجيهًا باستخدام العنف داخل المجتمع.

 

يقول الإمام الشهيد: "فهم- أي الإخوان المسلمون- يعلمون أن أول درجة من درجات القوة قوة العقيدة والإيمان، ويلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدها قوة الساعد والسلاح، ولا يصح أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها هذه المعاني جميعًا، وأنها إذا استخدمت قوة الساعد والسلاح وهي مفككة الأوصال مضطربة النظام أو ضعيفة العقيدة خامدة الإيمان فسيكون مصيرها الفناء والهلاك"(1).

 

ويقول: "وأما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها ولا يعتمدون عليها ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها"(2).

 

كما يحدد بوضوح أن انحياز السلطة التنفيذية لمنهج الجماعة، سوف يكون انحيازًا سلميًّا واضحًا لا عنف فيه، وإنما عن فهم واقتناع وعن تأييد ومناصرة سواء تمَّ ذلك بمظهره في الصندوق الانتخابي أو في الرأي العام أو انحياز المؤسسات ومراكز التأثير والتوجيه في المجتمع.

 

ولم يتحدث الإمام عن شكل الانحياز؛ لأنه سيكون حسب الواقع الموجود وقتها، وإنما حدد قواعده وآلياته وضوابطه، وأنه يتم عبر اقتناع وإيمان الشعب ومؤسساته ورأيه العام بهذه الدعوة، وليس عن طريق الجبر والإكراه أو العنف والقوة.

 

يقول الإمام الشهيد موضحًا ذلك: "إن غاية الإخوان تنحصر في تكوين جيل جديد من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح، يعمل على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية الكاملة في كل مظاهر حياتها (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً) (البقرة: من الآية 138)، وأن وسيلتهم في ذلك تنحصر في تغيير العرف العام وتربية أنصار الدعوة على هذه التعاليم؛ حتى يكونوا قدوة لغيرهم في التمسك بها والحرص عليها والنزول على حكمها"(3).

 

ويقول أيضًا: "ولهذا كان هدف الإخوان المسلمين يتلخص في كلمتين: العودة إلى النظام الإسلامي الاجتماعي، والتحرر الكامل من كل سلطان أجنبي"(4).

 

"أما وسائلنا العامة فالإقناع ونشر الدعوة بكلِّ وسائل النشر؛ حتى يفقهها الرأي العام ويناصرها عن عقيدة وإيمان، ثم استخلاص العناصر الطيبة لتكون هي الدعائم الثابتة لفكرة الإصلاح، ثم النضال الدستوري حتى يرتفع صوت هذه الدعوة في الأندية الرسمية، وتناصرها وتنحاز إليها القوة التنفيذية.."(5).

 

"أما غاية الإخوان الأساسية.. أما هدف الإخوان الأسمى.. أما الإصلاح الذي يريده الإخوان ويهيئون له أنفسهم فهو إصلاح شامل كامل، تتعاون عليه قوى الأمة جميعًا، وتتجه نحوه الأمة جميعًا، ويتناول كل الأوضاع القائمة بالتغيير والتبديل"(6).

 

"ولكن لاشك في أن الغاية الأخيرة أو النتيجة الكاملة لا تظهر إلا بعد عموم الدعاية وكثرة الأنصار ومتانة التكوين"(7).

 

* أما الاستعداد وامتلاك وسائل القوة- وأبرز مظاهره تشكيل النظام الخاص في حينها- فكان ذلك لمواجهة الاحتلال الأجنبي؛ حيث كان الوطن محتلاً من الإنجليز، والأمة بكلِّ طوائفها في حالة جهاد ومقاومة لهذا الاحتلال.

 

* وعن خروج أي فئة من المجتمع وتمردها بالقوة على رأي غالبية الشعب وانحيازه لمنهج الإسلام وعلى السلطة الشرعية الممثلة له بعد هذا الانحياز السلمي أو وقفت في طريقه، يتحدث الإمام الشهيد عن هذا الموقف، خاصة إذا خرجت هذه الفئة بالقوة عن تلك السلطة الشرعية أو حاولت إيقاف صلاحياتها عند انحياز الأمة إليها، فيقرر عدم استخدام القوة في مواجهتها ابتداء- رغم كونها المعتدية- وإنما يكون فقط في حالة الضرورة لردِّ الاعتداء، وبعد استنفاد كل الوسائل السلمية أولاً، ودراسة النتائج والآثار والإمكانيات، ويكون ذلك وفق القانون والضوابط الشرعية ومن خلال المؤسسات، وذلك لاستيعاب وعلاج هذا التمرد على الأمة أو وقوفه في طريقها بأسلوب العنف والقوة.

 

يقول الإمام في ذلك: ".... ولكن الإخوان المسلمين أعمق فكرًا، وأبعد نظرًا من أن تستهويهم سطحية الأعمال والفكر، فلا يغوصون إلى أعماقها، ولا يزنون نتائجها، وما يقصد منها وما يراد بها.

 

هذه نظرة، ونظرة أخرى هل أوصى الإسلام- والقوة شعاره- باستخدام القوة في كلِّ الظروف والأحوال؟ أم حدد لذلك حدودًا واشترط شروطًا ووجَّه القوة توجيهًا محدودًا؟.

 

ونظرة ثالثة: هل تكون القوة أول علاج أم أن آخر الدواء الكي؟ وهل من الواجب أن يوازن الإنسان بين نتائج استخدام القوة النافعة ونتائجها الضارة وما يحيط بهذا الاستخدام من ظروف؟ أم من واجبه أن يستخدم القوة وليكن بعد ذلك ما يكون؟.

 

هذه نظرات يلقيها الإخوان المسلمون على أسلوب استخدام القوة، قبل أن يقدموا عليه"(8).

 

وقد قصرها الإمام على حالة الاضطرار والإكراه، دفاعًا عن الحق وعن إرادة الأمة وبعد استكمال الشروط والضوابط واستنفاد باقي الوسائل.

 

"أما ما سوى ذلك من الوسائل فلن نلجأ إليه إلا مكرهين ولن نستخدمه إلا مضطرين وسنكون حينئذ صرحاء وشرفاء"(9)".. أقول لهؤلاء المتسائلين: إن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها؛ وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة، وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء، وسينذرون أولاً وينتظرون بعد ذلك.."(10).

 

* والتاريخ يشهد بهذا السلوك السلمي للإخوان في دعوتهم، فعندما شنَّت الحكومة السعدية حملة الاعتقالات والتعذيب لأفراد الجماعة، وكان الإخوان من العدد والإمكانيات ما يؤهلهم لإيقاف هذا الأمر ومنعه، رفض الإمام الشهيد اللجوء للقوة وقال لهم: "سلموا أكتافكم للسعديين" حرصًا على تجنب الصراع الداخلي، وإراقة دماء أبناء الوطن، وفضل أسلوب الصبر وتحمل الإيذاء.

 

وعندما تطور الأمر إلى حلِّ الجماعة في ديسمبر 1948م، أرسل إلى مجاهدي الإخوان في فلسطين أن مهمتكم هناك على أرض فلسطين ما زالت قائمة، وألا يلتفتوا إلى ما يحدث في مصر.

 

وعندما اعتقلوا هؤلاء المجاهدين لم يوجه الإخوان سلاحهم إلى من اعتقلهم من أفراد الجيش، بل وساعدوا الجيش وحموا مؤخرته بعد ذلك.

 

وبعد أن تم اغتيال الإمام الشهيد، وسقطت حكومة حزب السعديين كان الإخوان يعرفون جيدًا جميع من قام بمؤامرة الاغتيال، وبالرغم من تطور الأحداث السياسية وقيام الثورة ضد النظام الملكي، كان الإخوان يستطيعون الانتقام من قتلة الإمام دون الانتظار لأي محاكمة لكنهم كما رباهم الإمام الشهيد رفضوا ذلك ولم يفكروا فيه لحظة واحدة، وكذلك بعد انقضاء العهد الناصري وخروج الإخوان من السجون كانوا يلتقون بالأفراد الذين مارسوا أشد أنواع التعذيب ضدهم بل وقتلوا العشرات منهم، كانوا يلتقون بهم في الشارع والمجتمع، وقد زال عنهم سلطانهم والحماية السياسية لهم، ولم يفكر أي من الإخوان في إيذاء أحد منهم حتى بالقول أو التشفي.

 

مما يؤكد أن المنهج السلمي من ثوابت دعوة الإخوان، وفيه الرفض بوضوح لاستخدام العنف والقوة ضد أبناء الوطن أو إحداث صراع دموي أو فوضي وتخريب في الوطن.

 

كما أن تأييد الجماعة لحركة الجيش التصحيحية في مصر عام 1952م (والتي عُرفت بعد ذلك بثورة يوليو)، ليس انحرافًا عن خط دعوتها أو تعديلاً في المسار والمنهج، خاصة لمن عرف الظروف المحيطة والملابسات القائمة وقتها، فقد كان التغيير يُشكل مطلبًا شعبيًّا ووطنيًّا.

 

* إنما جاء هذا التأييد من منطلق تأييد أي حركة إصلاحية في ظل تلك الظروف وقتها، خاصة أن أصحابها كانوا معروفين للجماعة وموثوق فيهم، ووعدوا بالإصلاح وكانت المطالب عادلة، فهو ليس تأييدًا مفتوحًا (ولم يكن الإخوان يعلمون الغيب) وحدود هذا التأييد كانت خاضعة لضوابط الجماعة وفق منهجها وشمل ذلك: تأمين استقرار الوطن، وحماية المؤسسات من أي تخريب أو اعتداء، والتصدي لاحتمال عودة القوات الإنجليزية للقاهرة، والسماح لضباط الإخوان بالجيش بالمشاركة بصفتهم كضباط لهم مطالب عادلة وليس بصفتهم كإخوان.

 

* وعندما خالف قادة الحركة الشروط وانحرفوا عن منهج الإصلاح، واجهتهم الجماعة بالنصح والإرشاد، وتحملت أذى كثيرًا في سبيل الله.

 

* والإخوان يفرقون بين الدولة والوطن من جهة.. وبين الحكومة والنظام من جهة أخرى، فهم حريصون على استقرار الدولة وقوة مؤسساتها وتقدمها، ويعملون على تحقيق ذلك بالتعاون مع الآخرين.

 

* لكنهم يعارضون النظام والحكومة إذا انحرفت أو تجاوزت بكلِّ صور النضال الدستوري السلمي.

 

* وهم يقفون كذلك مع فئات الشعب وشرائحه المختلفة في مطالبهم العادلة بحقوقهم وإصلاح أوضاعهم بالوسائل السلمية بما فيها حق الإضراب والاحتجاج، بالشروط والضوابط التي لا تؤدي إلى تخريب وفوضى، أو إضرار بمصالح الوطن العليا، وبالتالي فإن الإخوان يقدمون مصلحة الوطن على المكسب الزائل في صراعهم مع النظام، ويعملون على أن يكون الشعب إيجابيًّا يعرف حقوقه ويعرف كيف يطالب بها وكيف يحافظ عليها.

-------------------

* عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين

الحواشي:

( ) رسالة المؤتمر الخامس صـ135 .

(2)رسالة المؤتمر الخامس صـ136 .

(3) رسالة المؤتمر الخامس صـ134 .

(4) رسالة المؤتمر السادس صـ212 .

(5) رسالة المؤتمر السادس صـ212 ، 213 .

(6) رسالة المؤتمر السادس صـ205 .

(7) رسالة المؤتمر الخامس صـ126 .

(8) رسالة المؤتمر الخامس صـ135 .

(9) رسالة المؤتمر السادس صـ213 .

(10) رسالة المؤتمر الخامس صـ136 .