لا شك أن تحكيم الشريعة الإسلامية وتطبيق أحكامها أمر واجب، وفرض لازم، وحكم قاطع ثابت بالأدلة الصحيحة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ولا خيار لمسلم ولا مسلمة ولا لمجتمع من المجتمعات في ذلك، ومن اختار شرعًا غير شرع الله أو بدل وعطل فقد أوقع نفسه في غضب الله ومقته وسخطه فضلاً عما يلحقه في الدنيا من شقاء وعنت ومشقة وحرج، والنصوص كثيرة في ذلك مما يبين أن تحكيم الشريعة الإسلامية من لوازم الإيمان ومقتضى الإسلام، قال تعالى (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا (65)) (النساء).
ومن خصائص أحكام هذه الشريعة أنها كلٌّ متحد مترابط متناسق، يؤخذ جملةً وتفصيلاً دون انتقاء وتشهٍ، ولا يمكن أن تستقيم معاملات الناس وفق الشريعة دون عقيدة صحيحة وأخلاق قويمة، وعبادة سليمة، وقد وضعت هذه الأحكام منسجمة مع بعضها الآخر، مكملة له، فالفصل بين أحكامها بتر لها وإخراج لها عن مسارها الصحيح، كما يقول الشيخ شلتوت: "العقيدة في الوضع الإسلامي هي الأصل الذي تبنى عليه الشريعة، والشريعة أثر تستتبعه العقيدة، ومن ثمّ فلا وجود للشريعة في الإسلام إلا بوجود العقيدة، ولا ازدهار للشريعة إلا في ظل العقيدة، ذلك أن الشريعة بدون العقيدة علو ليس له أساس، فهي لا تستند إلى تلك القوة المعنوية التي توحي باحترام الشريعة ومراعاة قوانينها، والعمل بموجبها دون حاجة إلى قوة من خارج النفس".
وفي مقابل هذه الأحكام الجلية هناك واقع مرير للأمة في علاقتها بالشريعة الإسلامية ليس وليد اليوم، وإنما ابتدأ منذ أكثر من قرنين، واشتد بأسه مع سقوط الخلافة الإسلامية على أيدي العلمانيين، الذي حرصوا من خلال تربعهم على عرش كثير من الحكومات العربية والإسلامية أن يحدثوا خللاً في البنية الفكرية للشعوب الإسلامية، لتعيش في فصام نكد بين ما تؤمن به وتعتقده، وما تطبقه في حياتها من مناهج وأنظمة، فبينما تعتقد أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق المدبر الحكيم العليم اللطيف الخبير، وتؤمن بالقرآن وما فيه من آيات وأحكام لكنها في كثير من مجالات حياتها تخالف ما تؤمن به وما تعتقده إن لم يتزلزل إيمانها الكامل ببعض الأحكام حيث لا تعدم نفرًا من المسلمين يتكلمون عن الربا وكأنه المنقذ للاقتصاد، ويستبشع تطبيق الحدود، ولا يجد غضاضة في التحاكم إلى القوانين الوضعية، بل ويعتبرها هي المرجعية والحضارة، وزاد من تجذر هذا الفصام أن الدول التي تعلن تطبيقها للشريعة الإسلامية لم تقم بالتطبيق الكامل بحيث تقدم نموذجًا مغريًا يدفع حتى ولو لمحاكاتها إنما للأسف شوهت الشريعة الإسلامية بتطبيقها الخاطئ.
في ظل هذا الواقع بدت مسألة من المسائل المهمة التي تواجه الحركات الإسلامية الصاعدة والتي تتبنى الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية بالكامل، فماذا عساها أن تفعل أمام هذا الواقع المر، فهل تقوم بفرض الشريعة الإسلامية بالكامل من خلال القوانين التي تصدرها المجالس البرلمانية التي يشكل الإسلاميون فيها الأغلبية، وتعمل الحكومة على فرض الالتزام بها بقوة القانون وإجبار السلطة التنفيذية؟ أم يطبق ما تقدر عليه الدولة حسب ظروفها وإمكاناتها في الوقت الذي تعمل فيه على إزالة العوائق أمام الأحكام التي يتعذر عليها تطبيقه في الحال؟
إزاء هذا الجدل برز موضوع "التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية" فهل هناك تدرج في التطبيق أم أن التدرج قد انتهى بكمال الشريعة وتمام نزولها وانقطاع الوحي، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يكون التصرف مع هذا الواقع؟
نبين أولا معنى التدرج، وبيان صوره وأشكاله، ثم بيان كيفية التعامل مع هذا الواقع من منطلق قواعد الشريعة وأصولها.
معنى التدرج:
التدرج، تفعل من "درج" التدرج في اللغة: من دَرَجَ من باب دخل، ودرج الشيء يدرج درجًا ودَرَجانًا أي مشى مشيًا ضعيفًا، ودنا، ومضى لسبيله، ودرجه إلى كذا واستدرجه بمعنى: أدناه منه على التدريج فتدرّج، واستدرجه: رقاه من درجة إلى درجة، وأدناه على التدريج فتدرّج هو، كدرَّجه إلى كذا تدريجًا: عوده إياه كأنما رقاه منزلة بعد أخرى، والتدرج أخذ الشيء قليلاً قليلاً.
ومن ثم يمكن القول بأن التدرج: أخذ الأمور شيئًا فشيئًا، وقليلاً قليلاً، وعدم تناول الأمور دفعة واحدة.
وهذا المعنى هو الذي حرصت عليه الشريعة الإسلامية ودلت عليه نصوص القرآن والسنة، بل نزول القرآن الكريم منجمًا على ثلاث وعشرين سنة أبلغ دليل على اتباع الشريعة هذا المنهج في تثبيت الأحكام، قال تعالى (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً (106)) (الإسراء)، وقال تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)) (الفرقان)، وفي الصحيح من حديث البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدًا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)) (القمر). وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده..".
ولذلك وجدنا تدرجًا في التشريع من حيث الزمان إذ استغرقت عملية التشريع حتى اكتملت ثلاثًا وعشرين سنة، ومن حيث الأحكام تم البدء بالعقيدة والقيم الأخلاقية وتلتها الأحكام العملية، وتم بناء الفرد أولاً ثم بناء الدولة ثانيًا وهكذا، بل وعلى مستوى الحكم الواحد راعى الإسلام التدرج فيه وأمثلته كثيرة.
وهذا المنهج الإسلامي في التغيير هو الذي يستقيم مع طبيعة النفس التي خلقها الله سبحانه وتعالى وتتسم بسمات تستعصي معها على أن تقهر على شيء لا تريده ولا تستوعبه.
لكن هذا التدرج المشار إليه آنفًا قد انتهى ولا مجال للقول باتباعه وبنفس الطريقة لأن هذا يتعارض تعارضًا كاملاً مع قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) (المائدة: من الآية 3)، ولو قلنا بالتدرج في التشريع لكان معناه نسخ بعض الأحكام، وقد انتهى زمان النسخ.
ومن ثم فإن القول بالتدرج في التطبيق يجب أن يخرج منه وباتفاق الجميع التدرج في التشريع بمعنى الحكم على شيء ما بأنه مباح ثم بعد وقت يحكم عليه بأنه حرام، أو الحكم بإباحة شيء ما ثم يحكم عليه بالوجوب بعد ذلك، وهذه ليست محل نزاع ولا خلاف بين عقلاء الأمة علماؤها وغير علمائها.
لكن تبقى صورتان لهما علاقة بالتدرج:
الأولى: التدرج في الدعوة والبلاغ، ومعناه: بيان الأحكام الشرعية للناس شيئًا فشيئًا، لتتم معرفتهم، واستيعابهم لها، وإدراكهم لحقيقتها، والتدرج فيها من الأصول إلى الفروع، ومن الأيسر إلى ما يليه، ومن السهل إلى الأشد، ومن القريب لأذهانهم إلى ما بعد عنهم، وهذا واجب العلماء والدعاة خاصة، وما يجب أن يتوقف هذا العمل ولا تلك السنة، وهذا هو ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا عندما أرسله إلى اليمن في حديث الصحيحين عن ابن عباس أن معاذًا قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب".
الثانية: تطبيق ما تستطيع الدولة أو الأفراد تطبيقه مما تعد القدرة شرطًا في القيام به، ويسقط مع العجز، أو يخفف حكمه، أو يترخص فيه على حسب درجة العجز، ومن ثم فما لا يمكن القيام به ولا القدرة عليه يؤجل تطبيقه إلى حين استيفاء شرطه وانتفاء موانعه، وألا يؤدي تطبيقه إلى مفسدة أعظم من المصلحة التي تترتب على تطبيقه، وكل من شرط القدرة على القيام بالتكليف وانتفاء العجز، والموازنة بين المصالح والمفاسد، من الأمور المعتبرة عند تطبيق أحكام الشرع.
ولذلك فإنه يجب بحث هذه المسألة في إطار شرط القدرة على القيام بالتكاليف، أو في باب فقه الموازنات، وليس تحت مسألة التدرج؛ فهذا هو الباب الرئيس لها وليس باب التدرج.
وقبل الحديث عن القواعد الحاكمة لهذه المسألة فإنه يجب توافر عدة أمور:
أ- الإيمان الكامل بوجوب تطبيق الشريعة الإسلامية وصلاحيتها للتطبيق في جميع مجالات الحياة.
ب- وجود نية ورغبة صادقة لتطبيق الشريعة الإسلامية، وليس التفافًا لتعطيلها والتحايل عليها بدعوى عدم القدرة.
ج- وجود خطة لاستكمال تطبيق الشريعة الإسلامية في المجالات التي تعجز الدولة أو الأفراد عن القيام به.
د- وجود عجز حقيقي لا مجرد أعذار واهية.
هـ- ألا يؤجل تطبيق الأحكام التي يقدر على تطبيقها انتظارًا لمرحلة التطبيق الكامل، لحديث الصحيحين واللفظ لمسلم "فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه"
أما عن اعتبار القدرة والاستطاعة شرطًا في القيام بالتكليف فهو أمر بدهي تدل عليه الأدلة وتشهد له القواعد، ومن ذلك: قوله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن: من الآية 16)، ولحديث "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" ومنها ما ورد في الصحيح "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ومن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" فهنا اعتد النبي صلى الله عليه وسلم بالقدرة كشرط للتغيير، وتدرج بالمكلف من حالة إلى حالة بحسب استطاعته
وقد ورد عن كثير من الفقهاء أقوال وقواعد صاغوها من هذه الأدلة:
قال القرافي "يشترط في خطاب التكليف علم المكلف وقدرته على ذلك الفعل"، وقال ابن حزم: "فأما ما عجز عنه فساقط، وأما ما لم يعجز عنه فباقٍ على وجوب الطاعة له".
وقد صاغ القرافي قاعدة على ذلك فقال "والقاعدة أن المتعذِّر يسقط اعتباره، والممكن يستصحب فيه التكليف".
كما أن اعتبار مآلات التطبيق، بحيث لا يترتب على تطبيق حكم مفسدة أعظم من المصلحة من تطبيقه فيشهد له ما صح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها "يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشًا اقتصرتها حيث بنت الكعبة".
وهذا الحديث يعتبر أصلاً عظيمًا في هذا الباب؛ إذ راعى النبي صلى الله عليه وسلم مآلات الأمور فعندما غلب على ظنه أن الفعل المشروع يحدث فتنة في القوم امتنع عنه درءًا للمفسدة، وهو ما فعله عمر في تقسيم أرض السواد إذ امتنع عن تقسيمها بين الفاتحين وتركها بيد أهلها يدفعون عنها خراجًا.
وروي قريب مما تقدم عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كما رواه ابن الجوزي أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على أبيه أمير المؤمنين الخليفة الراشد الخامس وقت قيلولته يستعجله بردّ المظالم إلى أهلها، فقال له عمر: يا بني، إن نفسي مطيتي، إن لم أرفق بها لم تبلغني، إني لو أتعبت نفسي وأعواني لم يكن ذلك إلا قليلاً حتى أسقط ويسقطوا، وإني لأحتسب في نومتي الأجر مثل ما أحتسب الذي في يقظتي، إن الله لو أراد أن ينزل القرآن جملة لأنزله، لكنه أنزل الآية والآيتين حتى استكنّ الإيمان في قلوبهم.
- وروي أن ابنه عبد الملك قال له: يا أبت لم لا تنفذ الأمور؟ فوالله لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القدور! فقال له عمر رضي الله عنه: "لا تعجل يا بني، فإن الله ذمّ الخمر في القرآن مرّتين وحرمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه وتكون فتنة".
- وروي عنه قوله "لو أقمت فيكم خمسين عامًا ما استكملت فيكم العدل، إني لأريد الأمر وأخاف أن لا تحمله قلوبكم، فأخرج معه طمعًا من الدنيا، فإن أنكرت قلوبكم هذا سكنت إلى هذا".
- وروي عنه قوله: "ما طاوعني الناس على ما أردت من الحق، حتى بسطت لهم من الدنيا شيئًا".
- وسئل الإمام مالك رحمه الله تعالى عن الرقيق العجم، يُشترون في شهر رمضان وهم لا يعرفون الإسلام ويرغبون فيه، لكن لا يفقهون ما يُراد منهم، فهل يُجبرون على الصيام أم يُطعمون؟ فقال: أرى أن يُطعموا ولا يمنعوا الطعام ويرفق بهم حتى يتعلموا الإسلام، ويعرفوا واجباته وأحكامه".
وقال ابن تيمية: "خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطابًا مطلقًا كقوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ) - وقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) - وقوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ) - وكذلك قوله: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا)- لكن قد علم أن المخاطب بالفعل لا بد أن يكون قادرًا عليه والعاجزون لا يجب عليهم وقد علم أن هذا فرض على الكفاية وهو مثل الجهاد، بل هو نوع من الجهاد- إلى أن قال- رحمه الله: والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه، فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين، ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه".
ويقول: "فالواجب على المسلم أن يجتهد وسعه، فمن ولي ولاية يقصد بها طاعة الله وإقامة ما يمكنه من دينه ومصالح المسلمين، وأقام فيها ما يمكنه من ترك المحرمات، لم يؤاخذ بما يعجز عنه، فإن تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار".
ومن القواعد التي صاغها الفقهاء لضبط الأحكام المتقدمة:
قال القرافي: "إذا تعارضت المفسدة الدنيا والمفسدة العليا فإنا ندفع العليا بالتزام الدنيا"، وقال الزركشي في المنثور: "قاعدة: تعارض المفسدتين، قال ابن عبد السلام: أجمعوا على دفع العظمى في ارتكاب الدنيا". وقال ابن دقيق العيد: "من القواعد الكلية أن تدرأ أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما إذا تعين وقوع إحداهما.... وأن يحصل أعظم المصلحتين بترك أخفهما إذا تعين عدم إحداهما"، وعند السيوطي وابن نجيم: "إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما، ونظيرها: قاعدة خامسة، وهي "درء المفاسد أولى من جلب المصالح"، فإذا تعارض مفسدة ومصلحة؛ قدم دفع المفسدة غالبًا، لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات.. وقد يراعى المصلحة، لغلبتها على المفسدة.
وكل قاعدة من هذه القواعد لها أدلتها وتطبيقاتها الفقهية المتعددة حتى أن العز بن عبد السلام أورد أكثر من ستين مثالاً للأفعال المشتملة على مصالح ومفاسد وشرع فيها ارتكاب الأقل مفسدة لدفع الأعظم مفسدة، وترك المصلحة الدنيا لتحصيل المصلحة العليا.
ومن ثم فإذا كنت القوانين الحاكمة لبعض الأمور من المفاسد والمناكير فإن شرط تغييرها يجب أن يكون إلى الأصلح والمعروف فإن كان تغييرها يؤدي إلى ما هو أفسد من بقائها تركت، وبالطبع فإن الأفسد إنما يكون في طريقة تطبيق الحكم الشرعي.
ومن القواعد المهمة أيضًا في هذا الباب: قواعد إزالة الضرر، حيث قيد الفقهاء إزالة الضرر، وهو واجب شرعي بألا يزال بضرر مثله أو أكبر منه بل يزال بالمعروف والضرر الأخف.
ومن ثم فإذا كنا أمام تشريعات وضعية أوجدت مراكز قانونية لعشرات السنين، وأسس بموجبها الكثير من المؤسسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتدرب على العمل بموجب تلك القوانين رجالات في القضاء والسياسة والشرطة ونحوها، وبسبب غياب الشريعة الإسلامية لم تنضج كثير من الاجتهادات في مجال السياسة والحكم ويحتاج الأمر إلى المزيد منها وتنقيح ما هو موجود ففي مثل هذه الحالة يكون التطبيق الفوري في المجالات التي لها علاقة بما ذكر أفسد من ترك التطبيق.
ولو أخذنا أنموذج العلاقة بين المالك والمستأجر في مصر والذي حددته قوانين صدرت منذ أكثر من خمسين عامًا والتي تم بموجبها تأبيد عقد إيجار المساكن وتثبيت القيمة الإيجارية عند مستوى معين يتندر عليه الجميع، فلو أردنا تصحيح مثل هذه العلاقة وفقًا لأصول الشريعة وقواعد الفقه وقمنا بإخراج المستأجرين من مساكنهم فورًا دون تدبير مأوى لساكني هذه البيوت لأدى ذلك إلى مفسدة أعظم من مفسدة تأجيل تصحيح هذه الأوضاع الخاطئة، ومثل ذلك يقال في شأن المؤسسات الربوية إذ لا يتصور تحويلها إلى مؤسسات اقتصادية إسلامية بمجرد قانون أو قرار إداري؛ لأن الأمر يحتاج إلى تغيير الفلسفة التي تنطلق منها هذه المصارف وليس مجرد تثبيت سعر الفائدة أو تغييره، ومثله أيضًا في تأهيل القضاة ومنفذو الأحكام إذ يحتاجون إلى دربة وتحصيل خبرة بقواعد الشريعة وروحها ومقاصدها قبل أن تصاغ لهم قوانينها في شكل مواد، ويسبق ذلك أو يتزامن معه النظر في مناهج التعليم والتربية ووسائل الإعلام لتقوم بعملية الإعداد والتوجيه والتثقيف، وهذا كله وفق خطة مدروسة محددة.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي: "ولا نعني بالتدرج هنا مجرد التسويف وتأجيل التنفيذ واتخاذ كلمة التدرج "تكأة" للإبطاء بإقامة أحكام الله، وتطبيق شرعه، بل نعني بها: تحديد الأهداف بدقة وبصيرة، وتحديد الوسائل الموصلة إليها بعلم وتخطيط دقيق، وتحديد المراحل اللازمة للوصول إلى الأهداف بوعي وصدق بحيث تسلم كل مرحلة إلى ما بعدها بالتخطيط والتنظيم والتصميم حتى تصل المسيرة إلى المرحلة المنشودة والأخيرة التي فيها قيام الإسلام كل الإسلام".
ويلاحظ أن ثمت أحكامًا لا يمكن دخولها في هذه الخطة المذكورة إنما يجب البدء فيها فورًا، وهي تلك الأحكام المتعلقة بالعقيدة وما يتعلق بها من أحكام؛ ومن ثم فإن النص على أن دين الدولة هو الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية هي المرجعية التشريعية والثقافية والحضارية للأمة من الأمور التي لا يجوز التهاون فيها، ولا الخجل من إعلانها للدنيا كلها، ويضاف إلى ذلك أيضًا ما هو معلوم من الدين بالضرورة في باب المأمورات أو في باب المنهيات، ومن ثم فإن الإبقاء على نصوص المواد التي لا تجرم الزنا إلا إذا اقترن بحالة إكراه، أو استغلال لصغر سن أو ضعف تمييز لا بد من إزالتها وتعديلها ولا يمكن التدرج فيها بحال من الأحوال، ويقال مثل ذلك في نظائره.
أما غير ما تقدم فيخضع للسياسة الشرعية التي تنتهجها الدولة في ترتيب أولويات التطبيق والتي تقوم على فقه مراتب الأعمال، وترتيب المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية.
وختامًا يجب التأكيد أن وضع هذه الخطة وتنفيذها التي تحقق شرط القدرة على تطبيق الشريعة الإسلامية، وإزالة العوائق التي تحول دون تطبيقها من الأمور التي يجب أن تسعى الأمة كلها إلى تحصيلها، القادر منهم وغير القادر، من هم في سدة الحكم ومتخذي القرار ومن هم في مقام التوجيه والتعليم، ومن هم من عامة الناس أو كانوا ممن يطلق عليهم النخبة، وكل له دوره ولا يعذر أحد في ترك شريعة الله سبحانه وتعالى مهملة مضيعة؛ لأن هذا هو المنكر الأكبر التي يجب أن تتضافر جميع الجهود لتغييره بكافة الوسائل المقدور عليها، والميسور منها لا يسقط بالمعسور.