لنعيش معًا أخي القارئ، أختي القارئة تلك القصة الرائعة، قصة مناجاة ودعاء وحديث بين أمة ومولاها ولنتأمل كيف يمكن أن تتحول حياة الإنسان إلى محراب كبير لا يصيبه الوهن أو الركود أو الفتور بين العبد وبين مولاه، إنها امرأة ككثير من النساء الذين ابتلاهن الله عزَّ وجلَّ القدير الحكيم بالعقم، ولكن إيمانها الذي ملأ قلبها أبى عليها الاستسلام للأمر.

 

فالعقم هو أمر الله وقدره ولن يرفع قدر الله إلا مشيئة الله، ولن يبلغ دعاؤها لله حتى تحيل حياتها كلها له وحده حتى تصير كلماتها مناجاة وعبادة، وتدلل على الله سبحانه، فلنقرأ جيدًا ولنعش بكامل وجداننا في ذلك الحوار الرائع بين امرأة عمران وبين الله عز وجل، والتي يسوقها المولى لنا في سورة سميت باسمهم (آل عمران).

 

ولن نتحدث في التفاصيل التي سبقت هذا الحوار من حياة أوقفتها لله تعالى- فحديثنا هنا لمن هم على صراط مستقيم ولم يعوج بهم الطريق، وإنما قد فترت الهمم والعزائم، وكيف ينهضون بها مرة أخرى- حتى ينبض في أحشائها نبض جنين يهبه الخالق الكريم لها، فتنهض ولا تنسيها فرحة الحمل بعد عقم أن تتوجه إلى مولاها ليس بالشكر فقط والدعاء بأن يبارك فيما رزقها إياه وإنما لتهبه كله لله عزَّ وجلَّ في خدمته وخدمة الهيكل (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)) (آل عمران).

 

ليس دعاءً وليس مناجاة، فالدعاء طلب من الله عزَّ وجلَّ وتمنٍ عليه، والمناجاة كلمات للتعبد وثناء على الله، أما هذا الحديث فهو كالخبر والقرار الذي تتخذه وتعرضه على ربها "يا رب إنني قد وهبتك هذا الجنين الذي أحمله، كله لك وفي خدمة دينك"، قرار وحوار راقٍ مع الله عزَّ وجلَّ ويسمعها الله تبارك وتعالى ويقدر أمورًا لا يفهمها البشر في حينها.

 

وربما يتساءلون كثيرًا قبل أن يأتيهم الجواب وربما لا يأتيهم أبدًا ويظل طي حكمته سبحانه إلى قيام الساعة، وتأتي آلام الوضع وتضع امرأة عمران مولودها في غياب الوالد الذي طواه الموت قبل مولد أول مولود له، وتكون المفاجأة للعابدة المتبتلة التي وهبت مولودها والتي كانت تظنه ذكرًا فيكون أنثى بإرادة الله وحكمته.

 

أرادته ذكرًا ليكون في خدمة دين الله وأرادها الله أنثى ليكرمها الله عزَّ وجلَّ بفضل أكبر مما كانت تتمنى الأم، فلن يكون وليدها مجرد عابد أو حامل لقضية، وإنما ستكون أنثى ليعدها الله عزَّ وجلَّ لمعجزة من أكبر المعجزات ومهمة من أعظم المهمات، فتلك الأنثى ستحمل في بطنها كلمة الله "عيسى ابن مريم" والذي ينسب لها ليس إنقاصًا لشأنها أو شأنه وإنما تكريم لها ولابنها معجزة الله عزَّ وجلَّ، وكل هذا بفضل إخلاص امرأة ودعائها ومناجاتها وحوارها مع ربها.

 

(فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)) (آل عمران)، لم تعد في صفقتها مع الله لتغير نوع المولود لتقول يا رب أنا كنت أحسبها ذكرًا، وإنما هي قد وهبت للكريم وانتهى الأمر، وهو الذي يقدر فلتستسلم لما يقدره، ولتسعد بما يرضيه فيكون التقبل الرباني سريعًا (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)) (آل عمران).

 

ويتهافت الجميع لكفالة مريم، كلهم يريد أن يحظى بذلك الشرف العظيم (كفالة ابنة عمران الرجل العابد التقي وزوجته العابدة الطاهرة)، وتكون كلمة الله بتكفلها النبي زكريا فتنبت على عين الله وفي كنف نبي بأمر الله وتقديره، يستبق الجميع ويستهمون ويلقون بأقلامهم في النهر فتغرق كل الأقلام إلا قلم زكريا ليهتم بأمرها، ويقوم على رعايتها كأحسن ما يكون، ويخصص لها مكانًا للعبادة لا يقربه غيره، لتعطيه درسًا آخر في فنِّ التعبد والعيش في رحاب الله ولله والقرب منه، وكل هذا بثمرة دعاء امرأة هي أمها التي وهبتها لله.

 

يدخل عليها زكريا المحراب- ويبدو أن الأمر قد تكرر كثيرًا ونفهم ذلك من كلمة "كلما"- فيجد عندها رزقًا لم يأتيها هو به، وهو يعلم أنه لا أحد يأتيها بالرزق غيره، فيسألها يا مريم (أَنَّى لَكِ هَذَا) قالت (هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ) لينتبه زكريا للأمر، ولم يكن قد رزق من الأبناء- وهو النبي- (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء (38)) (آل عمران)، إنه لا يأس مع الدعاء، ولا يأس والله عزَّ وجلَّ واسعة خزائنه وقدرته ليس لها حدود، وهو الكريم الذي يستحي أن يرد كف عبده خاوية.

 

وقد ارتفعت بالدعاء والنداء والمناجاة فتكون الإجابة الربانية المباشرة (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (39)) (آل عمران) لم يطمع زكريا عليه السلام كثيرًا في الدعاء، ولم يطلب سوى "ذرية طيبة" فتكون إجابة الله الكريم بالرزق الفوري بأن يهب له ليس صالحًا وإنما نبيًّا من الأنبياء، ويستمر "الحوار" بين زكريا وبين ربه عن طريق الملائكة "حوار" وليس دعاءً هذه المرة؛ ليعبِّر عن تلك النفس البشرية التي تعيش أحيانًا في بشريتها المحدودة بضعفها وقلة حيلتها.

 

فهو الذي دعا، ودعا القادر القوي الرزاق الذي يقدر بكلمة كن، وهو النبي الذي يعرف ذلك جيدًا، لكن حين تأتيه البشارة يتساءل وكأنه ينسى قدرة الله أو كأنه يريد أن يطمئن قلبه لعزة الطلب أو استحالته بالنسبة للبشر، فهو الرجل الذي أصابه الكبر ثم زوجه العاقر (قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء (40)) (آل عمران).

 

وطالما أن الله يفعل ما يشاء، وطالما أن قدرة الله لا يحدها شيء، وطالما أن أمر الله بين الكاف والنون، فلماذا نبتعد؟ ولماذا نغفل؟ ولماذا لا نقترب؟، ولماذا ندع مجالاً للجليد والجمود أن يكون حائلاً بيننا وبين الله عزَّ وجلَّ؟.

 

وهكذا تكون امرأة عمران بعبادتها وقربها وفهمها تكون معلمة على مدى التاريخ الإنساني كله في كيفية القرب من الله والدعاء لله بل والحديث معه سبحانه إذا استقام القلب والقالب ليكافئها الله عزَّ وجلَّ بأن تكون ابنتها الموهوبة من الله ولله خير نساء العالمين، وأم معجزة الله عزَّ وجلَّ عيسى ابن مريم، وتكون سببًا في أن يهب الله عزَّ وجلَّ نبيه زكريا ابنه يحيى حين انتبه منها أن قدرة الله ليس لها حدود (إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ).