بقلم: أحمد حسن علي

 

فـي 20 نوفمبر 1935م حاصرت قوات الاحتلال البريطاني فـي فلسطين عرين القسام وعشرة من إخوانه بقوة تقدر ما بين 400: 600 جندي، واستمرت المعركة ست ساعات، طلبوا منه خلالها الاستسلام، ولما أبى أغروه بالمال والمناصب، ولكنه أشاح بجميع عروضهم، وصاح فـي إخوانه "موتوا شهداء!".

 

وكانت تلك البداية لأعظم الملاحم الإنسانية فـي التاريخ، ومفتتحة فصول (الجهاد والشهادة) لتحرير فلسطين السليبة، ولا يسعنا إلا أن نقف عند محطات تاريخية جرت فـي الماضي، ولكنها لا تزال تفعل فعلها فـي الحاضر، وتؤثر فـي مجريات المستقبل.

 

المأساة الفلسطينية التي بدأت أول فصولها مع وعد بلفور (2/11/1917م)، والذي كان ينص صراحةً على وعد بريطاني بإنشاء وطن قومي لليهود فـي فلسطين!.

 

وقامت الجماهير الفلسطينية بالردِّ والحركة حسبما تسمح به قدراتهم المحدودة، فأشعلوا انتفاضات 1920-1923م، وثورة البراق 1929م ضد بريطانيا والوجود الصهيوني معًا.

 

وثارت الجماهير، على الرغم من أصوات المتعاملين مع الاحتلال البريطاني من الوجهاء والعشائر.. "ليس من داعٍ لئلا يتعامل العربي واليهود معًا؛ لأن هناك مكانًا للجميع، وقد قام اليهود بتقدم ملموس فـي فلسطين!".

 

من بوابة الألم والقهر عَبَر القسام، العالِم الشرعي الذي ارتحل إلى الأزهر الشريف والمتردد على حلقات الإمام محمد عبده ودروسه، وداعيته الشيخ رشيد رضا، فجمع ما بين أظهر خصائصهما المتميزة فكرًا ووعيًا وجهادًا، وعندما دهم الفاشست الإيطاليون ليبيا المجاهدة قام بجمع التبرعات والمتطوعين لإرسالهم لمجاهدة الغزاة، ولكن الظروف لم تتح لتوصيلهم، وأيضًا عندما اشتعلت نيران الغضب السورية بفعل مدفعية الفرنسيين؛ حمل السلاح فـي ثورة جبال صهيون، وطارده الفرنسيون وحكموا عليه بالإعدام غيابيًّا، ولكنه فرَّ من حكمهم الجائر!.

 

من وقتها أدرك القسام أنه لكي تظل جذوة المقاومة مشتعلة لا بد من (حشد تعبوي) مستمر ومستمد من الإسلام وأفكاره القادرة على مصارعة الباطل وأدواته، فكان يدعو الناس (إلى محاكاة أبطال الإسلام فـي عهوده الأولى)، (وأخذ يبحث فـي كل مكان يذهب إليه وعلى وجه الخصوص داخل المساجد عن حواريين بين الرجال الورعين الذين يخشون الله).

 

ويقول فـي ذلك عبد الوهاب الكيالي: إن الشيخ القسام كان يخاطب الجماهير رافعًا شعار: كتاب الله فـي يد والبندقية فـي اليد الأخرى.

 

وأتاح له التدريسُ فـي المدرسة الإسلامية بحيفا، ورئاسته لجمعية الشبان المسلمين النزولَ إلى القواعد الجماهيرية وملامسة آلامهم وأحلامهم الساعية إلى الحرية والعدالة.

 

فأنشأ مدرسة ليلية لتعليم الفقراء الأميين القراءة والكتابة والمعارف الأولية, ورأى الخطر المحدق بالفلاحين الفقراء؛ من جرَّاء الهجرات اليهودية المتزايدة، وخيانة بعض الإقطاعيين من خلال بيع أراضيهم.

 

فقد كان اليهود يملكون عند بداية الانتداب حوالي 2% من جملة الأراضي، فأصبحوا يملكون 6% عند نهاية الانتداب عام 1948م، وإن 90% من الأراضي التي حصلوا عليها كانت ملكًا للإقطاعيين، بينما لم يزد ما باعه الفلاحون على 9.4%.

 

وأنشأ التنظيمات السياسية لحماية الطبقة العاملة الفلسطينية التي تعاني الأجور المنخفضة والبطالة؛ إذ بلغ عدد العرب المتعطلين وقتها حوالي 21 ألفًا، ولم يكونوا يتمتعون بتأمين ضد البطالة أو المرض أو الحوادث، وإن القوانين العمالية لم تكن تعترف بالنقابات العمالية.

 

وهكذا التفَّ حول القسام الفلاحون المسحوقون والطبقة العاملة الفقيرة، وتأكد للجماهير على ضوء خبراتها الدامية أن (الكفاح المسلح) هو الوسيلة العملية لمواجهة الزحف اليهودي الذي يواصل قضمه لأرض فلسطين قطعةً قطعةً تحت رعاية بريطانيا الحليفة!.

 

وبعدما أصبح باديًا للعيان التنسيق والتعاون بين الإمبريالية البريطانية والعناصر الصهيونية فـي إنشاء وتمويل المنظمة الصهيونية (فرقة البغالة) من المتطوعين اليهود، والتي صارت فـيما بعد النواة الأساسية لعصابات "الهاجاناه" الإرهابية، فضلاً عن القيادات الوطنية التي شاخت فـي مواقعها، "داعية إلى الإخلاد للسكينة حقنًا للدماء، معتمدين على حسن نوايا الحكومة البريطانية، ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل!"، إضافةً إلى الصراعات والخلافات فـي صفوف القيادات التقليدية، فبعضهم خائف من البعض الآخر، والمجموع بلا قدرة على التأثير!.

 

وبدأ القسام الثوري المجاهد فـي إنشاء تنظيم جهادي سري مع بدايات عام 1925م، وأطلق عليه (المنظمة الجهادية)، وكان شعارها "هذا جهاد.. نصر أو استشهاد"، وكانت خطوات بناء هذا التنظيم تتطلب جهدًا هائلاً؛ إذ لم يكن هناك أي تجارب سابقة تلهمه معالم الطريق، فكان عمله هذا فوق الجهد المبذول شيئًا أقرب إلى الاختراع.

 

وكان ينتقي الأفراد المستعدين لبذل دمائهم فـي سبيل دينهم وبلادهم فـي خلايا عنقودية؛ بحيث تُجرى لهم دراسات تربوية عقائدية تمثل الإسلام (فكرًا وسلوكًا حركيًّا وسياسيًّا وعسكريًّا).

 

وكان عليه أن يتخطى عقبات هائلة تزرع اليأس فـي أشد المتفائلين، منها: - التوازن البشري المختل بينه وبين العصابات اليهودية المدربة والمسلحة من رأسها إلى أخمص قدميها.

 

- الإمدادات اللامحدودة من بريطانيا والصهيونية العالمية المتدفقة عليها على الدوام، بجانب شح السلاح والرجال الذي يواجه القسام، إلا أن معادلات الصمود والثبات من المقاومة قادرة على تغيير هذه الوقائع المختلة.

 

وبالفعل كان القسام يشترط على العضو أن يشتري السلاح على حسابه الخاص، وأن يدفع ما يستطيع للتنظيم.

 

واستمرارًا فـي التنظيم الثوري انبثقت عنه خمس لجان أو وحدات، هي: -

 

وحدة الدعوة للثورة وتعبئة الجماهير.

 

- وحدة التدريب والإعداد العسكري.

 

- وحدة شراء وتخزين وتأمين السلاح.

 

- وحدة الرصد والمخابرات.

 

- وحدة الاتصالات السياسية والخارجية.

 

وبعد تخطي القسام لمرحلة الإعداد التعبوي الجماهيري والعمل السياسي الدعوي، انتقلت الحركة إلى مرحلة ثانية وإلى مستوى آخر من النضال (الكفاح المسلح)، والجهاد ضد العصابات الصهيونية، وقام بعدة عمليات نوعية كتفجير بعض منازل الحراس اليهود، وقتل بعضهم، ومفاجأة اليهود فـي مستعمراتهم، والتصدي للسيارات المحملة بالعمال اليهود، وقد استهدف من تلك العمليات كسر حاجز الخوف الذي حاول اليهود أن يخلعوا به قلوب المقاتلين العرب.

 

وفـي نوفمبر 1935م، خرجت جماعة القسام (الجهادية) إلى العلن، ولكن جاءت المعركة الفاصلة فـي 20 نوفمبر، واستشهد القسام وثلة من رجاله، ولكن الدماء التي سالت أحدثت ما يشبه الزلزال فـي فلسطين كلها من أقصاها إلى أدناها، وكان لها شرف تفجير الثورة الكبرى (1936- 1939م)، وكان للقساميين الدور الأكبر فـيها قيادةً وتوجهًا وأفرادًا وتضحيات، وكذلك ملاحم حرب 1947- 1948م، ولا غرو أن يسمي الشيخ أحمد يس- الأقرب فكرًا وممارسةً لنهج القسام- ذراعه العسكري باسم كتائب عز الدين القسام؛ ليواصل مسيرة البطل الشهيد!.

 

وتكفَّلت التجارب التي خاضتها القضية الفلسطينية بتأكيد (قدرة الإسلام كأيديولوجية حية باعثة وقادرة على تفجير مكنونات الأمة؛ لصنع ثورة حقيقية ضد الظلم والاستكبار العالمي).

 

إن فلسطين هي القضية المركزية للعالم الإسلامي، ومصر هي مركز الأمة ومصدر قرارها ورأس الحربة؛ من أجل التحرر والكرامة، ولذا لا بد من تدعيم أحرار العالم العربي والإسلامي للثورة المصرية لتتعافى مصر من محنتها الطويلة، وتعود إلى دورها الذي ينتظرها.

 

وسيظل الشهيد القسام الملهم لثورات العالم الحر؛ ليؤكد القيمة الباقية حول قدرة الإنسان الأعزل على الانتصار ودحر الباطل ولو بعد حين!.