نحاول أن نجنب أبناءنا أن يرتكبوا الأخطاء ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.. نصر على أن يفعل أبناؤنا ما هو الصواب والأفضل.. لا أفضل (كأب/ كأم) النقاش؛ لأنه يدخلنا في دائرة مغلقة من الجدال.. لا نرى داعيًا للمخاطرة بينما يمكنه أن يتعلم من خبراتنا نحن (أمه وأبيه).

 

إن كنا نوافق على تلك الجمل بشكل كبير؛ فإن لنا أن نبدأ ونقول إن هذا يمثل الثغرة التي نقلل بها مساحات الحرية في حياة أبنائنا.

 

ولئن كانت الحرية هي: أن تؤمن.. تعتقد.. تفكر كما تحب.. أن تترك لك المساحة لتقول وتفعل ما تريد فيما يخصك.. أن تكوِّن رأيًا وتعبر عنه وأن يحترمه الآخرون، ألا تجد قيودًا تعرقل فكرة لك، ألا يكون الخوف مانعًا أو دافعًا.. وأن يكون كل ذلك في رضا الله، فإن نقصها يمثل الخوف والقيود والتابعية وغير ذلك؛ مما لا نريد أن ننشِّئ عليه هذا الجيل الذي نأمل ألا يرى إلا الحرية والقوة في نفسه.

 

مناخ

 

الجو العام للبيت، والمواقف المتتالية للأهل مع أبنائهم، وروح العلاقات وطبيعتها، وألفاظ الحوارات ومجراها، كل ذلك يصنع ما يمكن أن نطلق عليه مناخًا عامًّا للحرية في بيوتنا، ويمكن قياسه ببعض النقاط؛ مثل:

 

* النقاشات المفتوحة والإجابة عن أغلب أسئلتهم.

 

* قلة النقد الموجه إلى الأبناء وتحويله إلى أسئلة على شكل "ألا يمكن أن يكون الأفضل أن تفعل هكذا؟"، "فكر مرة أخرى في ذلك وأخبرني!!"، "حين أخبرتك عن ذلك كنت أتمنى أن تستمع إليَّ لأن..".

 

* السماح لهم بعرض آرائهم مهما كانت غريبة أو حتى مفتعلة أو مقلدة.

 

* عدم ميل الأبناء لإخفاء الأسرار وما يحيط ذلك من تصرفات؛ مثل الحديث همسًا في الهاتف، وانعدام التحدث مع الأهل في أمورهم الخاصة.

 

* قدرة الأبناء على التصرف دون الرجوع الدائم للأهل وعدم الخوف من الخطأ.

 

* شعور الأبناء بحريتهم في التعبير والاختيار.

 

* تبني وجهة نظرهم لبعض الوقت.. مثلاً الموافقة على أن يشتري الابن ملابس لا تليق به على أن يشتري الأب مثلها ويلبسوهما معًا.. ثم النقاش (سيضحك الابن ولكن الأب سيقول إنه جاد ويصر.. الابن سيقول: ولكن لا يصح.. الأب: لماذا؟.. الابن: كده علشان فرق السن.. الأب: يعني أنا عجوز وإيه يعني؟.. الابن: لا.. لا يمكن.. الأب: لقد تركت لك حرية الاختيار فهلا تركت لي حريتي؟!) إن تقريب الفكرة لأذهان أبنائنا وخاصة المراهقين أمر مهم جدًّا.

 

ثقافة الاختيار

 

يدعم مناخ الحرية أن نعوِّد أبناءنا الاختيار من عدة أمور بدلاً عن إلقاء الأوامر إليهم؛ مثلاً أن تسأل الأم صغيرتها: "هل تفضلين أن تساعديني في نشر الغسيل أم في ترتيب المنزل؟"، كذلك بترك الخيار لهم مع توضيح العواقب مثل النزول للمدرسة.. والمذاكرة..

 

"لا أريد الذهاب للمدرسة"

 

"سيفوتك الكثير من الدروس"

 

"لا أريد الذهاب للمدرسة بعد ذلك أصلاً"

 

"حسنا.. ولكن ماذا تريد أن تصبح حين تكبر؟.. كيف؟.. هناك بعض الناس الذين يتوقفون عن الدراسة مثل.. منهم أناس جيدون جدًا.. ولكن هل تريد أنت ذلك لك؟.. فكر ثم أخبرني.. مع العلم أني سأقبل بقرارك لكنه سيكون بغير رجعة!.. أمامك 5 دقائق لترد عليَّ ثم لن نتكلم عن هذا الأمر ثانية".

 

حتى ونحن نعلم أبناءنا عن الخلق الحسن علينا أن نريهم الخيارات وصورها وعواقبها من "حب الناس والمشاعر الجيدة وصورة سلبية، أمام أنفسنا قبل أي أحد".

 

إن إعطاء الخيارات لهم يجب أن يصاحبه بعض الحسم فيها ليعلموا أن الأمر جدي وليتعلموا أن يتفحصوا خياراتهم قبل اختيارها أن يتعاملوا مع الحرية بجدية.

 

القواعد= مزيدًا من الحرية.

 

إن القواعد الخاصة بالأسرة تدعم مناخ الحرية في بيتنا!!.. نعم هذا صحيح؛ ذلك أن القواعد التي تصنعها الأسرة لأفرادها مثل مواعيد النوم والخروج وغيرها تترك للأبناء في بقية الحياة مجالاً واسعًا من الحريات والاختيارات دون تدخل؛ شرط أن تكون تلك القواعد محددة وواضحة وعادلة، فكأننا حددنا لهم بعض الأطر التي سيتحركون بما لا يخرقها وهم أحرار فيما عدا ذلك، أما الصورة الأخرى وهي عدم وجود أي قواعد تجعلنا دائمي النقد والجدال حول نفس الأمور؛ ما يجعلهم يشعرون بالتقيد، كالطفل يترك له البيت كله ليمرح فيه ثم يفاجأ بنا نصرخ فيه؛ لأنه دخل الحمام؛ ثم لأنه عبث بالزهرية؛ ثم لأنه أكل فوق السرير مثلاً.. بينما ببساطة كنا أغلقنا هذه الأبواب بالاتفاقات المسبقة.. تلك هي القواعد.

 

قصة لن تتكرر

 

الخوف هو الثمن الأول الذي سيدفعه أبناؤنا حين نطغى على حرياتهم.. فيخافون من الخطأ والنقد.. سينشئون على الخوف من المخاطرة، وإيثار السلامة، والسير بجوار الحائط، كما سيعتادون الانقياد وانتظار الرأي من الآخرين، فلا يستطيعون التميز ولا مواجهة الخطأ والفساد، ولا التعبير عما يريدون إن خالف ما يريده من حولهم.. سيخافون أن يخطئوا الإجابة في الفصل، ويخافون أن يخوضوا تجربة جديدة فلربما تفشل!!، وكذلك سيؤذي كثيرًا قدرتهم على الإيجابية والتغيير، كما سيقلل مساحات الإبداع في حياتهم وأعمالهم.

 

المخالفة ما وجدوا الفرصة هي الثمن الثاني الذي ندفعه.. كمخالفة الإشارة وقواعد المرور حين لا يراه من يحاسبه؛ لذا علينا حتى ونحن نعلمه القواعد والخلق والعبادات أن نجعله يؤديها؛ حبًّا وقناعة لا إجبارًا وكراهة.

 

إن تلك القصص لا نريد أن نراها مرة أخرى.. لتكن في طيات قصص العبر التي نحكيها كي لا نكرر فعل أصحابها.

 

درس الحرية الأغلى.. ثمنًا

 

إن أحد أهم دروس الحرية التي يجب أن نعلمها أبناءنا ونحن نربيهم عليها هو أن لها ثمنًا، وأن ثمنها غالبا ما يكون باهظًا وأحيانًا يكون ثمنها الحياة ذاتها.. فتكون الشهادة هي وسيلة تحقق الحرية، ولكن تعليمه سيبدأ بأمور أبسط من ذلك بكثير.. مثل أنت حر أن تأكل أو لا، ولكن موعد الوجبة التالية ليس إلا بعد 5 ساعات مثلاً أو لك حرية أن تنجز واجباتك المدرسية سريعًا أو لا، ولكنك لن تؤخر موعد النوم، ولن تتلقى مساعدة في الصباح الباكر، كما أنك حر في سرعة وكيفية إنفاق مصروفك، ولكنك لن تتلقى زيادة عليه ما لم تكتسبها كمكافأة أو غيره.

 

إن أول ثمن للحرية هو تحمل عقبات اختياراتهم.. علينا أن نحدثهم عن ذلك ونشرحه لهم، ونضرب لهم الأمثلة، ونحكي لهم من القصص والمواقف.

 

حكاية قصص البطولة والشهداء منذ الصغر ستدعم كذلك مبدأ أن للحرية ثمنًا يجب أن يدفع.. فيصبح مفهومًا وواضحًا وضوح الشمس، ويعيشه صغارنا فيفهمون الكثير مما لا يفهمه الكبار ولو بعد عمر طويل.

 

درس.. سجدة الحرية

 

إننا عندما نسجد لله عز وجل فيما يمثل قمة الخضوع والذل بوضع الجبهة على الأرض، فإنك سنشعر أنها قمة الحرية؛ لأنك اخترت أن تضعها هكذا، بينما اخترت ألا تخفض رأسك ولو قليلاً تحية أو خجلاً، المسلم.. "يصبح حرًّا يتلقى التصورات والنظم والمناهج والشرائع والقوانين والقيم والموازين من الله وحده، شأنه في هذا شأن كل إنسان آخر مثله، فهو وكل إنسان آخر على حد سواء، كلهم يقفون في مستوى واحد، ويتطلعون إلى سيد واحد، ولا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله" كما قال الشهيد سيد قطب رحمه الله.

 

إن ذلك الدرس أهم دروس الحرية الذي يجب أن يعيشها أبناؤنا.. وحين يعيشونه سيتعلمونه وسيغير حياتهم للأبد.