نحو 60 عامًا أفناها بين الجهاد والدعوة، فلم يصرفه اعتقال ولا تهديد بالإعدام عن رسالته، هو اسم لا يعرفه كثيرٌ من الناس، لكن الرجال لا يُعرفون بأسمائهم وإنما يُعرفون بصنائعهم وعملهم.

 

حمل أمانة الدعوة وصدح بها وظلَّ لها وفيًّا حتى لقي ربه في 21 ديسمبر 2011م، حفظ القرآن منذ الصغر، وكبر به وعمله له ومن أجله.. إنه حامد بدر السيد الزقم.. أحد الرعيل الأول لدعوة الإخوان المسلمين، ولد عام 1925م بقرية "بهوت" مركز "نبروه" بمحافظة الدقهلية، وهو ينتمي لعائلة وأسرة حريصة على تعلم وحفظ كتاب الله تبارك وتعالى منذ الصغر، يقول الحاج حامد الزقم:

 

"وقد كان هذا اتجاه غالب أهل القرية وهو تحفيظ أبنائهم القرآن الكريم؛ وذلك طلبًا للأجر والثواب من عند الله تعالى أولاً، ثم لميزات كثيرة منها الإعفاء من الجيش، والحمد لله فقد حفظت القرآن الكريم كاملاً.. كنا صباحًا في المدرسة، وباقي النهار في الكتاب...".
وعن قصة التحاقه بالجماعة يقول:

 

"كان هناك نشاط واسع جدًّا للإخوان المسلمين لا تخطئه العين، وكانت بركة وثمرات هذا النشاط تعم الجميع.. وكنت أرى كل هذه الأمور الطيبة وألحظها، وفي يوم من أيام عام 1949م دعاني فيه نسيبي محيي الدين فارس الطالب بمعهد المنصورة الأزهري لحضور اجتماع أسبوعي لإخوان الدقهلية بالمنصورة يوم الأربعاء، وكان القائم على تنظيم هذا الاجتماع الأستاذ صلاح الشربيني- وقد كان نسيبي هذا طالبًا عند الأستاذ الشربيني بالمعهد- وعرفني نسيبي عليه.

 

وكان الأستاذ صلاح الشربيني المدرس في المعهد الديني بالمنصورة هو السبب في التحاق حامد الزقم بالإخوان؛ حيث يقول عن ذلك: "كان الأستاذ الشربيني مَن أخذ بيدي إلى الطريق؛ حيث كان يأخذني معه إلى درس الثلاثاء في شعبة الإخوان المسلمين في السكة القديمة بالمنصورة، وكان كل أفراد الإخوان في الدقهلية يحضرون هذا الدرس بانتظام، وهناك تعرفتُ على عددٍ كبيرٍ جدًّا من الإخوان".

 

تأثير دعوة الإخوان

كان لدعوة الإخوان أكبر الأثر على الحاج حامد القزم يقول عن ذلك: "بعد التحاقي بالجماعة تغيَّر نمط حياتي كليةً، فمثلاً كنا قبل التعرف على الإخوان لا يمكن أن نخرج ليلاً حتى لو أعطوا للواحد عشرين جنيهًا، فقد كان الظلام حالكًا ولم تكن هناك أي إنارة بالشارع سوى عدد من المصابيح أمام بعض البيوت والتي كان يضعها أصحابها، ولكن بعد التعرف على الإخوان اختلف الأمر تمامًا، أصبحنا نخرج في الظلام الحالك قبل صلاة الفجر لنوقظ الناس؛ حيث كنا ننادي ونقول:

 

"يا قومنا أجيبوا داعي الله.. الصلاة خير من النوم، يا قومنا أجيبوا النداء... هنيئًا لمن هجر المنام.. وقام لعبادة الملك العلام" .

 

وبعد صلاة الفجر في الجماعة كان لنا لقاء.. ثم نقوم بعده ببعض التمرينات الرياضية البسيطة جدًّا ثم يعود كل أخ إلى بيته بعد ذلك.

 

وكنت كذلك عضوًا في جوالة (كشافة) الإخوان، والتي كان لا يخفى تأثيرها الهام على الفرد الإخواني نفسه وعلى المجتمع من حوله، وكان هناك أيضا نظام الكتائب والرحلات وغير ذاك من الأنشطة الإخوانية".

 

مع المحن

مرَّت الجماعة بالعديد من النكبات والمحن كان أبرزها اعتقالات 54 على خلفية حادثة المنشية، يقول الحاج حامد الزقم:

 

"لم أعتقل في 54 ولكن نظرًا للظروف التي كانت تمر بها الجماعة بدأ الحاج عبد الفتاح عبده إسماعيل يعمل على إيقاظنا.. وقد كنت قد تعرفت عليه من خلال التجارة فهو مثلي تاجر حبوب، ثم كان يزورني كثيرًا في منزلي فتوطدت علاقتنا جدًّا، وكانت علاقة طيبة فيها كل المودة والأخوة، فكنا نسافر معًا لبورسعيد والإسكندرية وغيرها من البلدان لنلتقي بالإخوان هناك من أجل إيقاظ النفوس وجمع شتات الإخوان.

 

وفعلاً نجح الحاج عبد الفتاح في هذا الأمر جدًّا، لقد كنت أرى الأخ عبد الفتاح وبلا مبالغة بائعًا نفسه لله تعالى".

 

وهكذا اجتمع الإخوان من جديد، وتكون تنظيم راسخ الأركان، وقوي البنيان غير أن دوام الحال من المحال... فما أسرع أن جاء عام 65 حاملاً معه محنة عظيمة وبلاءً شديدًا للإخوان.. من اعتقالٍ وتعذيب وتغييب في سجون الظلم والطغيان.. واعتقل الحاج حامد الزقم مع آلاف من إخوانه.

 

يقول الحاج الزقم:

"في البداية حاصرت قوات الأمن قريتنا وهجموا على بيوت الإخوان وقبضوا على كلِّ مَن فيها، وتم ترحيلنا مباشرةً إلى السجن الحربي، واستقبلونا فيه بالضرب والكرابيج المستوردة من السودان، وقضيت فيه عامين، ثم كانت المحاكمات والتي حكم عليَّ فيها بالمؤبد غير أني قضيتُ منها عشر سنوات فقط، فقد كانت قضيتي الرابعة والخاصة بتنظيم الدقهلية والغربية وكان عمري وقتها 40 عامًا، لننتقل بعد ذلك لسجون كثيرة، في أماكن عديدة وقد رأينا الكثير جدًّا من العذاب، خاصةً في السجن الحربي، حتى إن إحدى قدمي من شدة الضرب مع عدم الرعاية الطبية تعفنت وكدت أفقدها بالبتر لولا لطف الله؛ حيث سخَّر لي أحد العساكر الذين كانت لهم خبرة في التمريض فعالجها واستحلفني ألا أُخبر أحدًا حتى لا يعذبوه، وما زال أثر ذلك على قدمي واضحًا".

 

"كان الضرب والتعذيب متواصلاً ليل نهار، وطعامنا الوحيد كان الفول، وعندما ينادي علينا العسكري لتناول الطعام كان لا بد أن يسبَّ الدين ويشتمنا بألفاظٍ نابية.

 

وفي التحقيقات أو بمعنى أصح في مكاتب التعذيب كان يقول الضابط: "أنت من الإخوان؟، اضربه 100 كرباج، كان معاك مين؟، اضربه 100 كرباج"، والذي يضرب هنا ليس فردًا أو اثنين بل أربعة على أقل تقدير، وكل واحد يريد إظهار إخلاصه وتفانيه في العمل أمام الضابط، والأخ معلق بحديدةٍ بين كرسيين ليكون الضرب على جميع أجزاء الجسم.

 

وأتذكر أنه عندما كنتُ أصرخ من شدة التعذيب وأقول "يا رب" كان يرد عليَّ مَن يعذبني قائلاً: "لو جه ربنا هنا ها نعذبه معاك ونربطه في الكرسي جنبك".

 

كان الأخ ماهر الجندي ضخم الجثة يذهب لإحضار الطعام للزنزانة، ويقلب الإناء الفارغ رأسًا على عقب فلا تنزل منه نقطة عسل واحدة فيقول متهكمًا: بالله عليكم كيف أحمل طعام 7  أنفار؟، وكان العسكري يتلذذ بمنظره وهو ينزع اللحم تمامًا من العظم، ليعطي اللحم للكلاب ويرمي لنا العظم ليستوحش علينا الكلاب.

 

ثم خرج بعد ذلك من معتقله في عام 1975م ليكمل العمل من أجل الإسلام، وفي عام 1980م عمل الحاج حامد الزقم مدرسًا للقرآن الكريم وعلم التجويد باليمن لمدة 12 عامًا.

 

لقد حمل أمانة الدعوة وصدح بها وظلَّ لها وفيًّا حتى لقي ربه في 21 ديسمبر 2011م.