في الأغلب الأعم من القضايا لا يختلف موقف الصهاينة عن الولايات المتحدة فيما يتصل بالعالم العربي؛ ولكن في الثورة المصرية تباين الموقف الأمريكي عن الموقف الصهيوني، ذلك أن الكيان الصهيوني ينظر دائمًا إلى الأحداث بمنطق المصلحة والضرر المباشرين، بينما تنظر واشنطن إلى الأحداث من الناحية الإستراتيجية حتى لو جلبت أضرارًا مؤقتة في المدى القريب.

 

فنظرة الصهاينة إلى إيران وملفها النووي يختلف تمامًا عن حقيقة الموقف الأمريكي؛ لكن يختلف الموقفان في الخلافات، وهي أن تل أبيب لا تريد إيران شريكًا بأي صورة في المنطقة، بينما تريد واشنطن إيران شريكًا تابعًا تمَّ تطويعه في الثورة المصرية، لا شكَّ أن خسارة نظام مبارك خسارة فادحة لكلٍّ من الكيان الصهيوني وواشنطن؛ ولكن الفارق بينهما هو النظرة إلى كيفية تعويض هذه الخسارة.

 

لا أظن أننا بحاجة إلى تفصيل ما قالته الصهاينة عن أهمية مبارك، وحجم القلق الذي ساور الصهاينة، وأن زواله كابوسًا يؤرقها في اليقظة والمنام، ولذلك أصيب الصهاينة بحالة من الصرع كلما تأكدت أنها خسرت حقًّا حسني مبارك، وقد استرجع الصهاينة الأيام الخوالي عندما كان مبارك يضحي بمصلحة مصر قربانًا على مذابح المحبة معهم، وبالنسبة لواشنطن كان مبارك مهمًّا للغاية، ولكن يمكن تعويضه لأن المصالح الأمريكية في مصر وإن شملت أيضًا مصالح الكيان الصهيوني إلا أن عقلية واشنطن في تناول الأحداث كدولة عظمى تختلف عن عقلية الكيان ذات التركيب الخاص، ولكنهما في النهاية يلتقيان في المآلات.

 

أصبح واضحًا تمامًا أن الثورة المصرية كانت عملاً إلهيًّا استجاب لأنات الشعب، وأنه كان مفاجأة وهذه من خصائص أعمال الإله، وأنه كان ساحقًا ومباغتًا، وأنه أزال نظامًا كاملاً ظن أنه شارك الله في ملكه ونازعه في سلطانه، فكانت الثورة مشهدًا من مشاهد يوم القيامة؛ ليؤكد الحق سبحانه لهم أن المُلك دائمًا له لا يشاركه فيه شريك، وأن مَن ظن غير ذلك هلك وأخذته الصيحة، وهم غافلون عنها وعن أبعادها.

 

هذه الخاصية هي التي تميز العمل الإلهي عن أعمال البشر، ولذلك فإن الله بالغ أمره بهذه الثورة وبمآلاتها، ترتيبًا على افترض أن الثورة عمل إلهي لم يمكن لأحد منهم أن يتوقعه، كما لم يتمكن أحد منهم أن يوقف الثورة أو يتحكم في مسارها؛ لأنها نور الله، ولا يمكن أن يطفئ البشر بحماقتهم نور الله، كما أن تلك سنة الله في خلقه يجريها كيف شاء وأينما شاء، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.

 

لقد قرر الله أن يبيد هذه الفئة المارقة التي ظنت بالله ظن السوء، فاستنفد أهل الأرض كل أسباب الدنيا، فكانت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين ظلموا السفلى.

 

في المرحلة الأخيرة للثورة، وبعد أن لوحظ فزع اليهود والأمريكيين ووجودهم بكثافة داخل الثورة؛ ليشهدوا عجبًا من عجائب هذه الدنيا، حاولوا كتابة السطر الأخير في هذه الثورة بتحويل مسارها وتشتيت مطالبها، ثم التحكم بعد ذلك في نتائجها، وهذا ما نشهده في هذه المرحلة.

 

يمكن أن نقسم الموقف الأمريكي إلى ثلاث مراحل من الثورة المصرية، المرحلة الأولى: هي المفاجأة وعدم القدرة على تحديد الموقف؛ ولكن دموية المواجهة التي ظهرت يوم 28 يناير كانت إنذارًا لواشنطن؛ لأن إسالة الدماء وقتل المحتجين كان سيلقي النقمة على أسياد النظام ومساندته، خاصة أن واشنطن كانت تطالب بالديمقراطية، وأنها تعهدت بعدم دعم الحكومات المستبدة، وأن هذا التقليد الفاسد الذي امتد مدة طويلة سوف ينتهي، في هذه المرحلة شددت واشنطن على قلقها من الموقف في مصر، وعلى حقِّ الاحتجاج السلمي، وعلى تجريم مواجهة المحتجين بالقوة.

 

المرحلة الثانية: تقدمت واشنطن خطوة أخرى بالإعلان عن ضرورة رحيل مبارك، عندما شهد العالم كله وحشية النظام، وتغوُّل أمن الدولة، بل ودخول سيارة أمريكية هيئة سياسية لتدوس عددًا كبيرًا من المحتجين عمدًا وأمام أعين الناس، وبدأ الرسل يتوافدون على مصر؛ لدراسة الموقف، وكانت واشنطن مترددة لسببين: الأول أن مبارك طمأنها بأنها هبَّة صغيرة سيتم القضاء عليها في ساعات؛ لأنها فئة ضالة مندسة من الإرهابيين وأصحاب السوابق، والسبب الثاني، أن الكيان وبعض الدول الأخرى رأت أن يبقى مبارك حتى لو سبحت مصر كلها في أنهار من الدماء؛ وقد شدد نتنياهو على هذا الموقف ولا يزال يلوم واشنطن على سوء تقديرها؛ لأنها هي التي أسهمت بشكل حاسم في رحيل مبارك، كذلك أوضح عوفاديا يوسف، كبير حاخامات الصهاينة، في رسالة إلى نتنياهو بتاريخ 1/6/2011م يلومه فيها على تفريط الكيان الصهيوني في حماية مبارك، وهو أخلص صديق للشعب اليهودي، وقدم لهم خدمات تاريخية.

 

المرحلة الثالثة: هي التي ألح فيها أوباما على مبارك أن يرحل بعد أن ارتفعت النداءات المطالبة بذلك، وأصبح الرحيل مطلبًا لا محيص عنه، وأن الشعب يمكن أن ينقض على قصر مبارك، وقد تحدث مذابح جديدة تتحمَّل جزءًا من مسئوليتها الولايات المتحدة.

 

قررت واشنطن أن الثورة ماضية في طريقها لا محالة، وأن مصادفة الثورة والثناء عليها هو الخيار الأفضل، حتى يمكن صناعة المستقبل في مصر على ضوء هذه الحقيقة.

 

عند هذه النقطة يبدو اتفاق الكيان وواشنطن على التدخل لتحديد شكل النظام الجديد، وفي كلِّ الأحوال فإن هذا النظام أيًّا كان لونه لا بدَّ أن يلحظ المصالح الأمريكية والصهيونية؛ ولكن الشعب يريد نظامًا يحقق استقلال القرار المصري دون أن يدخل في معارك مع أي طرف، وتلك معادلة لا تزال كل الأطراف تسعى إلى تحقيقها.

 

أما الكيان الصهيوني فإنه لم ييأس من تخريب الأوضاع في مصر، ويركز في ذلك على إذكاء الفتنة الطائفية، ولا يزال المشهد مفتوحًا أمام كل المؤامرات.

 

وقد لوحظ أن نتنياهو قد حدد أمرين تجاه الثورة المصرية، الأول: أنه لا يمانع في إقامة نظام ديمقراطي في مصر، ولكنه يريد أن يلتزم أي نظام في مصر بمعاهدة السلام مع الصهاينة، وهو طلب تشاركه فيه واشنطن وأوروبا، ولا تمانع السلطات المصرية في إعلان الالتزام بكلِّ المعاهدات السارية في مصر وبما فيها معاهدة السلام.

 

الأمر الثاني: هو أن نتنياهو أكد في عدة مناسبات أن الجيش الصهيوني جاهز لكلِّ الاحتمالات، وعلى كل الجبهات، ما يعني أن تل أبيب ستظل تتعامل مع تطورات الأوضاع في مصر من منظور أمني عسكري، وهذا لا يتماشى مطلقًا مع مزاعم رغبتها في السلام.

 

والحق أن معضلة مصر في المرحلة المقبلة هي خيارات الكيان والولايات المتحدة ومحاولتهما التحكم في قرارات مصر في الداخل والخارج، وإعادتها إلى حظيرة التبعية لهما بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فهل يصمد النظام في مصر ويعلي إرادة مصر ومصالحها وتأكيد انتمائها العربي الإسلامي؟ أم تسلك مصر طريقًا وسطًا يجمع بين الاستقلال والمرونة أو الانحناء، هذا هو تحدي المرحلة المقبلة في مصر.