ظهرت فكرة تأسيسها سنة 1899م عندما نادى ثلاثة من مبشري الإرسالية الأمريكية في مصر بضرورة إقامة كلية بروتستانتية في القاهرة تكون مركزًا للمواجهة الفكرية مع الإسلام.

 

وفي عام 1913 تقدم أندرو واطسن الذي أصبح مؤسس الجامعة الأمريكية بوثيقة للقنصل العام الأمريكي في مصر تدعو لإقامة مؤسسة للتعليم العالي، بدعوى "حاجة مواطني شمال إفريقيا إلى التعليم المسيحي؛ لكي يُشكِّل حياتهم اليومية ويُعد قادتهم للمستقبل".

 

وقال: إن مكانة مصر الإستراتيجية باعتبارها مركزًا فكريًّا للعالم الإسلامي يفرض على المسيحية أن تقدم أفضل ما لديها لتتحدى الإسلام في مركزه الفكري، وإظهار شخصية المسيح للناس، وإعدادهم مهنيًّا؛ لكي تتحول بلادهم إلى مملكة للرب!.

 

وعلى الرغم من أزمة الحرب العالمية الأولى، تم توفير الاعتمادات المالية اللازمة لتُفتتح الجامعة الأمريكية في مقرها الحالي بميدان التحرير عام 1920م، واخُتير لقيادتها مجلس أوصياء من 21 عضوًا من ممثلي الكنائس المسيحية البروتستانتية.

 

وتكشف وثائق الجامعة عن التوجهات التي اعتمدتها حال نشأتها ومنها ضمان الشخصية المسيحية للجامعة، وتأثيرها في الطلاب وأعضاء هيئة التدريس من خلال المقررات الدراسية والحياة الجامعية؛ بغية تنمية الولاء المسيحي لديهم، بالإضافة إلى تحويل المجتمع المصري نحو القيم الغربية.

 

وقد ظلت تلك الوجهة التبشيرية هي المحور الذي تدور حوله بقية الأهداف المعلنة من إعداد النخبة، ونشر الثقافة الأمريكية وخدمة المجتمع المصري.

 

وفي عام 1951م تم تأسيس "مركز البحث الاجتماعي" الذي دعمته مؤسسة فورد، ومسئوليته تتركز في جمع وتحليل المعلومات التي تخص الظروف الاجتماعية في الشرق الأوسط، وقام المركز بدور خطير في كشف دقائق الأمور والمشكلات الاجتماعية في مصر بما يمكن اعتباره أداة للتجسس على مقدّرات الحياة الاجتماعية لدعم أمريكا في بسط الهيمنة الثقافية على المجتمع العربي.

 

الوثائق التي نشرها (إخوان أون لاين) مؤخرًا حول تعاون الجامعة مع وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" وتقديم الجامعة خدمات استشارية وإدارية للجيش الأمريكي، أعادت فتح الملف الأسود للجامعة الأمريكية في مصر، الدور الذي لعبته منذ إنشائها حتى الآن وفقًا لمخططاتها وأهدافها.

 

السؤال: كيف تمثل الجامعة قاعدة تجسس لدولة أجنبية على أرض مصر وتشكل خطرًا على أمنها القومي؟ وهل يجوز لمؤسسة تعليمية التعاون مع البنتاجون؟

 

اجتماع ديني

 الصورة غير متاحة

الجامعة الأمريكية في القاهرة إلى أين؟!

في دراسة لها تحت عنوان (أهداف الجامعة الأمريكية في القاهرة.. دراسة وثائقية منذ النشأة وحتى عام 1980) تشير الدكتورة سهير البيلي الأستاذة بكلية التربية بجامعة طنطا أن الأوضاع الداخلية المصرية والوضع المسيحي النشط وقتها؛ هيَّأت الأجواء لدعم مشروع الجامعة الأمريكية بالقاهرة إلى الحد الذي دفع المندوب السامي البريطاني اللورد كرومر إلى القول: "واجبنا الأول هو إقامة نظام يسمح لجمهور السكان بأن يكون محكومًا وفقًا للأخلاق المسيحية وأن سياسة (فرِّق تَسُد) لا يمكن تحقيقها إلا عن طريق التربية، والتحالف مع الصفوة أفضل بكثير من كسب الجماهير".

 

وأضافت أن الجامعة الأمريكية استطاعت أن تحقق أغراض التبشير المسيحي، ولكن بطريقة تختلف عن التبشير التقليدي، وذلك بعدم فصل التفكير الديني عن الحياة؛ ولكنها تجعله جزءًا أساسيًّا متغلغلاً في كل مجالاتها.

 

وأشارت إلى أنها اتخذت لذلك وسائل منها: "الاجتماع الديني" الذي تتم الدعوة له تحت مسمى الاجتماع لبحث سلبيات وإيجابيات العمل في الجامعة يوميًّا بين الطلاب وإدارة الجامعة، ولا تسمح الإدارة لأحد من الطلاب بترك ذلك الاجتماع، حتى يوم الجمعة باستثناء شهر رمضان.

 

وأوضحت أن محاضرات بعض المفكرين العلمانيين متواصلة حول مختلف الأمور مثل حقوق المرأة، ويتم عرض الأفلام التبشيرية على الطلاب، والحضور وتوزيع تذاكرها مجانًا على الكنائس؛ لتقوم بتوزيعها على فقراء المسيحيين، لمشاهدة تلك الأفلام من الوسائل التي تتبعها الجامعة.

 

وقالت: إن د. روبرت أندروس الخبير الأمريكي حدد مفهوم التبشير الذي تقوم به الجامعة أنه "لا يعني إحداث تحول من ديانة إلى أخرى، ولكن هو محاولة؛ لأن يصل الناس إلى درجة التشبع بوجهات النظر والمفاهيم والمثاليات المسيحية، بل وتحميل المقررات العلمية بوجهة دينية، حتى يتأكد الطالب من أن المدرس والمؤسسة التعليمية اللذين قدما له التوجيه الحكيم في العلوم قادران على تقديم النصح الحكيم أيضًا في مجالات الدنيا والدين".

 

غسيل الأدمغة

ويؤكد الكاتب الكبير الدكتور حلمي محمد القاعود أن الجامعة الأمريكية منذ نشأتها تحمل أهدافًا معلنةً وخفيةً، ربما يتضاءل بجوارها تقديم الجامعة معلومات إلى البنتاجون في صورة دراسات بحثية.

 

 د. حلمي محمد القاعود

 

وشدد على أن تلك الغايات باتت تستهدف هوية الشعب المصري العربية والإسلامية، وتُمثل تهديدًا بالغ الخطورة على الأمن القومي لبلادنا قائلاً: "إن تلك الوثيقة بمثابة النار التي تشعل الهشيم".

 

ويوضح أن المشكلة تكمن في أن الأشخاص الذين يتعاملون مع تلك المؤسسات البحثية الأمريكية ينتمون إلى النخب الحاكمة في مصر مما يزيد المسألة تعقيدًا في توجيه أصابع الاتهام لهم أو حتى معاقبتهم إذا ثبتت التهم عليهم.

 

وعن سبل مواجهة ما أسماه "غسيل الأدمغة" بالجامعة الأمريكية يقول: إن الحل هو أن ترفع السلطة المركزية يدها عن التعليم، حتى لا تخضع لسيطرة الفكر الغربي، فضلاً عن ضرورة أن يكون هناك اتجاه نحو توحيد التعليم بالبلاد العربية؛ ليكون هناك فكر عربي موحد تكون لديه قدرة على مواجهة أي فكر خارجي.

 

معقل للتجسس

ويؤكد الدكتور أيمن فايد الباحث المتخصص في الشئون السياسية- وصاحب دراسة حول التعامل مع القوى الأمريكية ذات الأهداف الخفية- أن الجامعة الأمريكية في مصر هي أكبر معقل تجسس للأمريكان في منطقة الشرق الأوسط كافة، ووصفها "بالمطبخ السياسي" الذي يتم فيه جمع كافة المعلومات عن الشعب المصري وطريقة تفكيره.

 

ويحذر من خطورة الوثيقة المنشورة، مؤكدًا أن الجامعة تتوارى خلف ستار التعليم للطبقات المرفهة، ولكنها في الأصل تعمل لصالح أجندة غربية أمريكية تريد أن تخترق الفكر المصري، وتتطلع على موازين القوة والضعف لديه لتتمكن من قلب معدلات القوة لصالحها.

 

ويشدد على ضرورة التحصين ضد تلك الحملات ومجابهتهم بنفس لغتهم "لأن الحرب العالمية القادمة ستكون حربًا فكريةً تُجهّز لها الجهات الأمريكية منذ وقت بعيد، وتلك الوثيقة إحدى الدلائل التي تُؤكد صدق توقعاتنا بسمات المرحلة القادمة".

 

ويوضح أن للجامعة اتجاهًا نحو إعداد قادة متشبعين بالثقافة الغربية ونمط الحياة الأمريكية؛ وبهذا تضمن أمريكا ولاء هؤلاء القادة لها، وبالتالي الهيمنة على المجتمع المصري؛ لأن المجتمعات الشرقية غالبًا ما يحكمها نظم ديكتاتورية.

 

ويشير إلى أن الترويج للثقافة الأمريكية في مصر يتم من خلال الحفلات الموسيقية والمحاضرات والندوات الثقافية والسينمائية وقال: "تم إنشاء مركز للبحث الاجتماعي في 1951 لجمع المعلومات عن المجتمع المصري والشرق الأوسط وتحليلها، فأصبح المركز أداةً للتجسس على الحياة الاجتماعية في مصر".

 

احتلال جامعي

 الصورة غير متاحة

د. جابر قميحة

ويعتبر الدكتور جابر قميحة أستاذ الأدب العربي أن هذا التصرف ليس مستغربًا من جامعة أمريكية تم زرعها في بيئة مختلفة تمامًا تحت خلفية شعار "لماذا نحتل بيوتهم، كان أسهل أن ننشئ جامعة".

 

ويوضح أن ما نُشر هو الظاهر السهل، الذي قد يكون وراءه أشياء أخرى "فما خفي في مثل هذه الأمور أعظم"، خاصةً في ظل سيطرة هذه الجامعات على رضا النخبة تحت تأثير عقدة النقص.

 

ويشير إلى أن ملوك أوروبا كانوا يتفاخرون فيما بينهم بإرسال أبنائهم للتعليم في مدارس قرطبة وأشبيلية الإسلامية.

 

ويؤكد أن ما قامت به الجامعة- بحسب ما أكدته الوثائق-  يدخل في نطاق الخيانة العظمى، ويفضح ضعف الرقابة والخلل الموجود في الجامعات المصرية التي يسودها عقلية رجال المصفحات التي تحوطها من كل جانب، فضلاً عن سيطرة ما يسمى بـ"الحرس الجامعي" علي كل شيء، خاصةً التعيين وهو ما يجعل كل شيء في البحث العلمي وبناء النوابغ تحت سيطرة الرضا الحكومي.

 

ليست الوحيدة

وحول خطورة تعاون مؤسسة تعليمية مثل الجامعة الأمريكية مع جهه أجنبية مثل البنتاجون، يقول الدكتور عبد الله الأشعل مساعد وزير خارجية مصر السابق وأستاذ القانون الدولي: إن المعونة الأمريكية الخاصة بالتعليم لا تأتي هكذا اعتباطًا، ولكن قد يكون وراءها توجيه ما إلا أنه أوضح أن الجامعة الأمريكية ليست الجهة الوحيدة التي تعمل لصالح مؤسسات أجنبية خارجية، بل هناك جامعات مصرية تشارك بأبحاث مع الخارجية الأمريكية.

 الصورة غير متاحة

د. عبد الله الأشعل

 

ويشير إلى أن الجامعة الأمريكية تتعامل مع طلابها بشكل متميز بخلاف تعامل الجامعات الحكومية مع طلابها، مؤكدًا أن رجال الأمن بمثابة ضيوف غير مزعجين، ولا يقومون بتفتيش الطلاب أو إحالتهم إلى مجالس تأديب أو خلاف ذلك؛ مما يحدث مع طلاب الجامعات المصرية.

 

وأضاف أنه عقب اندلاع حرب 5 يونيو 1967م تم إجلاء الجالية الأمريكية وفرض الحراسة على الجامعة وتعيين الدكتور حسين سعيد المصري حارسًا على الجامعة، وقد استطاع أن يقنع الرئيس عبد الناصر بعدم تأميم الجامعة الأمريكية، حتى تكون بمثابة حلقة الوصل بيننا وبين أمريكا في ظل انقطاع العلاقات الدبلوماسية.

 

وبقدوم السادات تم إلغاء قوانين الحراسة في يونيو 1974م وعادت العلاقات مع أمريكا، وبدأ التقارب بين الجامعة الأمريكية والحكومة المصرية، والتي نتج منها إصدار أول وثيقة رسمية من الحكومة تؤكد استقلال الجامعة، وأطلق عليها وثيقة بروتوكول 1976م.

 

ثورة برلمانية

الوثيقة أثارت أزمة برلمانية كبرى، حيث وجه الدكتور فريد إسماعيل عضو الكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين تحذيراتٍ شديدةَ اللهجة للحكومة من جرَّاء تراخيها غير المقبول نحو ما تأكَّد من تعاون معلوماتي خطير بين الأجهزة العسكرية الأمريكية والجامعة الأمريكية بالقاهرة.

 الصورة غير متاحة

د. فريد إسماعيل

 

وأكد النائب أنه تقدَّم بطلب إحاطة عاجل إلى الدكتور أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء والدكتور هاني هلال وزير التعليم العالي واللواء حبيب العادلي وزير الداخلية وأحمد أبو الغيط وزير الخارجية لمتابعة ذلك الأمر عن كثب؛ لأن مسألة إعلان البنتاجون عن تلك الوثائق؛ يعني تقديم معلومات سرية عن مصر، وحصول وزارة الدفاع الأمريكية على معلومات دقيقة تصل في نهاية الأمر إلى العدوِّ الصهيونيِّ؛ مما يهدِّد الأمن القومي المصري بشكلٍ مباشر.

 

وأوضح النائب أن توغل الوجود الأمريكي في مصر في كثيرٍ من المواقع الحسَّاسة- سواء في الجامعات ومراكز الأبحاث والمعامل الطبية، ومنها مركز (نمرو 3)، وحصوله على بيانات ومعلومات مهمة- يعدُّ أمرًا خطيرًا، بالإضافة إلى استغلاله للمعونات الممنوحة في تحقيق مستهدفاته، مع سيطرته على كثير من الجمعيات المشبوهة.

 

حرب فكرية

ويحذر الخبير الإستراتيجي اللواء طارق سعفان من خطورة تلك الوثيقة التي كشفت النقاب عن الوجه القبيح للجامعة الأمريكية، مؤكدًا أنها تعد نقطة مركزية للتجسس لصالح المخابرات الأمريكية.

 

وشدد على أن اتفاقية كامب ديفيد وضعت نهاية لحلقة الحروب العسكرية، ولكنها في الوقت ذاته أسست لميلاد حروب أشد ضراوةً وشراسة، وهي الحروب الثقافية والفكرية.

 

وأضاف أن الأجندة الصهيوأمريكية تبذل قصارى جهدها لطمس الهوية المصرية، وخلع ثوب الفكر والعلم عنها بهدف إضعافها وسهولة اختراقها؛ فضلاً عن أن مَن يساعدها على تحقيق تلك المآرب والأهداف هم عقول مصرية طُمست بالصبغة الأمريكية وتسير وقفًا لأجندتهم.

 

وأكد اللواء طارق سعفان أنه لا سبيلَ للتخلص من هذا الخطر الذي يحيط بمنظومتنا الفكرية سوى تغيير القيادة السياسية، واستبدال قيادة أخرى صالحة ورشيدة لا تبيع عقول أبنائها أو أرضها لأجندة غربية عميلة بها.