بقلم: د. رشاد لاشين

ويستكمل المراهق رحلته الرائعة يستعذب آلامها، ابتغاء وجه ربه الكريم، ويدخل السجن لا من أجل التحرش، أو الاغتصاب، أو انتهاك الحرمات، أو ارتكاب الفواحش، بل من أجل الطهر والعفاف والاستعصام.. ويستحب السجن على الفتنة؛ ويدفع ثمن مبادئه العظيمة، شامخًا، عالي الرأس؛ فلا يصيبه الإحباط، ولا ييأس، ولا يركن، بل يستمر في طريقه، معتزًّا بهويته؛ داعيًا مؤثرًا في غيره؛ غنيًّا بأفكاره ومبادئه، معتزًّا بآبائه الصالحين، سيرته حسنة، له قدر ومكانة في الوسط الذي يوجد فيه؛ يبتلى فيصبر ويتأهل للريادة والتمكين.

الحلقة الثالثة: مرحلة الشموخ بالمبادئ ودفع الثمن: (الآيات من 36 – 42)

﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)﴾ (يوسف).

معايير النجاح هنا تتمثل في ثلاثة أمور: في امتلاك المعايير الصحيحة للاتباع، وبناء الهوية، مع امتلاك القدرة على الدعوة، والتأثير في الآخرين، والأخذ بأيديهم إلى الله عز وجل مع تحمل الابتلاء كمرحلة مهمة للإعداد للتمكين.

أولاً: وضوح المقومات والمعايير الصحيحة للإتباع وبناء الهوية

مرحلة المراهقة هي مرحلة بناء الهوية، والمراهق المعتز بهويته الذي يملك المعايير الصحيحة للاتباع والسلوك، هو من يستطيع أن يعبر المرحلة بنجاح، وأن ينتقل إلى الإنجاز والتمكين بقوة وجدارة، وهنا نجد بشكل عملي تطبيقي كل معايير بناء الهوية ومقوماتها، من خلال سلوك سيدنا يوسف عليه السلام في هذه المرحلة من خلال الآتي:

1- تقدير الذات والثقة والاعتزاز بالنفس مع إرجاع الفضل لله تعالى:

تقدير الذات والثقة بالنفس من أهم احتياجات المراهق حتى يمضي في طريقه بثبات وشموخ دون التأثر بالانحراف أو الضلال المنتشر حوله: ﴿قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾ أي: أنا واثق من علمي مقدر لذاتي وهذا من فضل ربي.

2- الثبات والتماسك والقدرة على ترك الباطل وعدم الانبهار بالانحراف السائد:

أكثر ما يسبب الانزلاق للمراهق تدني النظرة للذات، أو الانبهار بالانحراف السائد، وإذا توفرت للمراهق القوة النفسية والرؤية الواضحة والمرجعية الصحيحة للسلوك امتلك القدرة على التمسك بالمبادئ دون الذوبان في ثقافة المجتمع، فليست العبرة بالموجة السائدة؛ لكن العبرة بالمبدأ الصحيح والرسالة الراقية التي تستمد طهرها من الله تعالى؛ فمرجعية التصرف ليس تقليد الأقران ولا الانبهار بالثقافة المادية، بل الإيمان بالله تعالى والانضباط بأوامره ونواهيه، فالله تعالى هو مرجعية التفكير والسلوك؛ لذا فهو يمتلك الجرأة في مفاصلة الباطل والقدرة على الانخلاع من الوسط الفاسد وتركه ﴿إِنِّي تَرَكْتُ﴾ فأنا لست إمعة، أسير مع السائرين أو كيفما يكون قومي فأنا معهم بغض النظر عن الإيمان بالله أو انتظار اليوم الآخر.. لا.. فأنا متميز ﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)﴾.

3- الأصالة والاعتزاز بالآباء الصالحين والتحذير من اتباع الآباء الضالين:

من أكثر المشاكل المرصودة في المراهق غير السوي معاندة الآباء، ومعاداة الكبار ،والسلوكيات المضادة للأهل، ولكن التربية الصالحة تنتج المراهق السوي، الأصيل صاحب المبدأ، المتمسك بدينه، المعتز بآبائه الصالحين، حتى وإن لم يكونوا معه، أو بعدت بينه وبينهم المسافات والأزمان؛ فهو يعتز بهم ويفتخر بانتمائه إليهم: ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾، وكما أن هناك فريقًا ينساق وراء ضلال الآباء؛ لذا ورد التحذير من اتباع الآباء الضالين: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ﴾؛ فهو يعتز بآبائه الصالحين، ويحذر من اتِّباع الآباء الضالين، فلا خضوع لأي سلطان غير سلطان الله تعالى، ولا اتِّباعًا أعمى للآباء بل اتباع للحق على هدى وبصيرة.

4- تقدير نعم الله تعالى واستشعار فضله:

﴿ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ﴾

واستشعار نعم الله تعالى يبني في الإنسان قوة نفسية عظيمة باستشعار معية الله تعالى وفضله، فيرتقي الإنسان إلى المعالي في رحاب الخالق العظيم الرزاق ومنهجه الراقي، ولا ينزلق إلى العبيد الفقراء الذين يجرونه إلى أسفل سافلين بمناهجهم الوضيعة.

5- التسامي والاستعلاء على الباطل والتحرر من كل سلطان غير سلطان الله تعالى:

﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ فما تتبعون ولا تعبدون إلا مجرد أسماء مفتعلة لا حقيقة لها ولا معاني وراءها.. وجاءت كلمة (أسماء) نكرة للتحقير، أسماء جوفاء ابتدعها البشر الجاهلون من عند أنفسهم، وأضفوا عليها صفات وخصائص الإله والحكم والسلطان، وهي لا تستحق العبادة، ولا تملك أن تكون آلهة، والله تعالى لم يجعل لها سلطانًا ولم ينزل بها من سلطان.

 6- العقيدة الصحيحة والربانية هي المرجعية الأصيلة لهوية الإنسان وسلوكياته:

- الاعتقاد الصحيح الذي لا يقبل في تصوراته ولا سلوكياته مخالفة الله تعالى أو الإشراك به يصنع الهوية الصحيحة الراقية: ﴿مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾.

- وضوح مرجعية الحكم والسلطان: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾؛ فلا ينبغي أن يكون الاتباع والسلطان والحكم والطاعة والعبادة إلا لله الواحد القهار، وكل اتباع أو سعي للسلطان والحكم  بغير ما أنزل الله فهو باطل: روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ ..".

7- الاعتزاز بالدين القيم يصنع الهوية المشرفة:

قيومية الدين: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ القيمة الحقيقية والهوية المشرفة للإنسان أن يتبع الدين، ويسير على الصراط المستقيم؛ لأن الدين قيم: له قيمة وقدر ومقدار، ومن يتبعه يصبح له قيمة وقدر ومقدار، ومن يتركه يفقد قيمته وقدره ومقداره.

﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ وهذا التعبير الرائع يفيد القصر، فلا دين قيمًا سوى هذا الدين الذي يتحقق فيه اختصاص الله تعالى بالحكم, تحقيقًا لاختصاصه بالعبادة.

8- العبرة ليست بالأغلبية بل بالمبدأ:

الأكثرية ليست مبررًا للاتباع ولا للانسياق وراءها، وقد ذكرت الأكثرية هنا مرتين، مرة في مقام الجحود لنعمة الله تعالى، ومرة في مقام الجهل:

﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ(38)﴾،

﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)﴾.

فلا ينبغي أن ننخدع بهذه الأكثرية غير الشاكرة لنعم الله تعالى، أو بالمبادئ الأخرى، أو بالأغلبية المنتشرة، ويجب أن ندرك أن الجحود والجهل عند الأكثرية هو سبب بعدها عن الله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)﴾ فكونهم (لا يعلمون) لا يجعلهم على دين الله القيم.

وقد حذرنا الله تعالى من اتخاذ الأكثرية معيارًا للاتباع: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116)﴾ (الأنعام).

ثانيًا: امتلاك مؤهلات الدعوة إلى الله عز وجل والتأثير في الآخرين

1- السيرة الحسنة والتميز العلمي:

 المراهق المنضبط، حسن السيرة، المتميز في علمه، المتفوق في مجال من المجالات محبوب من الناس يحظى بثنائهم الحسن، وهو مصدر عون لهم وقبلة يقصدونه للنفع والإفادة، يدخل السجن فلا ينزلق مع أصحاب الجرائم ولا يتعلم منهم، بل يأخذ بأيديهم ويعمل على إصلاحهم: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ(36)﴾ (يوسف).

2- القدرة على التواصل الاجتماعي:

فهو اجتماعي مشارك لا ينطوي على نفسه، ولا يعتزل الناس، بل يعيش معهم، ويقترب منهم ويتحاور معهم، وبابه مفتوح لهم يتوجهون إليه لحل مشكلاتهم: ﴿نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

3- القدرة على إيجاد الصداقة على أسس صحيحة: فهو له أصحاب: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ﴾.

4- القدرة على الحوار والإقناع وامتلاك قوة المنطق:

﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾.

5- اغتنام الفرص للأخذ بأيدي الرفاق إلى الله عز وجل:

 فلم يقدم لهم الجواب والحل إلا بعد أن عرض عليهم الدعوة إلى الله عز وجل بأسلوب رائع.. ويستفاد من ذلك أن تقديم الخدمة للزملاء وحل مشكلاتهم تحببهم في الدعوة التي تقدمها إليهم.

6- تقديم الخدمة عن علم وثقة بالنفس:

﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)﴾.

ثالثًا: الابتلاء قبل التمكين

بعد أن امتلك سيدنا يوسف كل هذه المؤهلات الرائعة، بقي أن يبتلى ويختبر، ويصنعه الله تعالى على عينيه ليتأهل لمرحلة التمكين والريادة:

﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)﴾.

أراد الله تعالى أن ينسى هذا الناجي، طلب سيدنا يوسف بذكره عند الملك للاستشفاع بخروجه من السجن؛ وذلك تربية لسيدنا يوسف ألا يطلب من غير الله تعالى من ناحية، ومن ناحية أخرى أن يكون مكوثه في السجن هذه السنين، إعدادًا وتهيئةً للقيام بمهمة التمكين والريادة فيما بعد، وهذا ما سنراه في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى في اللقاء مع الحلقة الرابعة: مرحلة الإنجاز والتمكين وانتصار المبادئ.. الآيات من (43- 57).