1- "اللهم أجب دعوته وسدِّد رميته" (رواه الحاكم في المستدرك)

هذا دعاء الحبيب- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- لصحابي جليل أن يكون مستجاب الدعوة- يقرع باب الكريم دومًا بالتضرُّع والاستغاثة، "ومَن أدمن قرع الباب يوشك أن يُفتح له" (ابن مسعود رضي الله عنه).

والدعاء مخُّ العبادة وسمة العبد الرباني، وقديمًا قال الشاعر:

أتهزأ بالدعاء وتزدريه         وما يدريك ما صنع الدعاء

سهام الليل لا تخطئ ولكن      لها أمـد وللأمـد انقضاء

 فيمسكها إذا ما شاء ربي       ويرسـلها إذا نفـذ القضاء

 

ومَن ذا الذي يردُّ دعاء السحَر وسِهَامَ القدر وكل أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرَّه، ومستجابُ الدعوة تلزمه نيةٌ صادقةٌ يستصحبها عند كل عمل وذاتيةٌ يتحلَّى بها، وأن يُطيبَ مطعمَه وينقي سريرته ثم تبدو عبقرية دعاء النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "وسدِّد رميتَه".

 

فتقرن بين الربانية والإيجابية.. بين قوة الإيمان والعقيدة.. ونقاء السريرة ودقة التصويب وحسن التدريب والأخذ بالأسباب وجمال الأداء.

 

وتمزج بين بذل الجهد واستفراغ الوسع في شحن القلوب ونقاء النفوس والسعي الحثيث لاكتساب مهارة إجادة التسديد وحسن التصويت.

 

وكأني به- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ينادي إنما تنصرون بالإيمان والعمل الصالح. ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ (آل عمران: من الآية 79). ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ (الأنفال: من الآية 60).

 

وكم من أيادٍ ترتفع إلى عنان السماء تطلب المدد وترجو النصر لم تقدم يومًا تضحيةً ولا أفردت في حياتها للجهاد صفحةً أو بذلت لدعوة الإسلام وقتًا وجهدًا فأنى يُستجاب لها؟؟
ثم يبقى قوم ينتظرون أن تمطر السماء ذهبًا وفضة؟ وآخرون يلهثون بالدعاء (اللهم أهلك الظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين! أما الذين فقهوا وأدركوا ضرورة المزج بين أن يحسنوا الرماية ويجملوا في الدعاء والطلب فديدنهم.. ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)﴾ (التوبة).

 

فهلا أفاق المتكاسلون! ومتى تنفخ الحياة في الأيدي العاجزة المشلولة والقلوب المخدَّرة!
وماذا بعد أن أضحت أمتنا ميدانًا للرماية يتدرب فيه الأعداء على قواعد الرماية وفنون التصويب والأهداف المنصوبة هي رؤوس أبنائها وأعراض نسائها!

 

وما أحوج الأمة إلى الأيدي المتوضئة العاملة غير العاطلة تستمطر الدعاء في ذات الوقت الذي تشق فيه طريق القوة والحضارة.. نعم.. ما أحوجنا إلى يد الطبيب الماهر والمهندس المبدع والعالم المخترع والعامل المنتج والمزارع المثمر الصامد والكاتب المجاهد والمصور الاستشهادي والفنان الهادي.

 

2- شبهة مردودة:

وآخرون يهربون من مقارعة الأعداء والثبات أمام زحف الباطل والمرابطة على ثغور الفكر متعللين بأن النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- كان في غزوة وبعد رجوعه منها قال لأصحابه "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر".

 

قالوا: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر. قال: جهاد النفس.

وهذا القول ليس حديثًا وليس صحيحًا من ناحية السند والمتن، ولم يرد في كُتب الصحاح ولا كُتب السنة الستة وليس في الموطأ ولا مسند الإمام أحمد.

 

وقد قال عنه الحافظ بن حجر هو مشهور على ألسنة العامة، وهو من كلام إبراهيم بن عبلة وقال العراقي: رواه البيهقي بسندٍ ضعيف عن جابر رضي الله عنه.

 

وهو يحمل أمرين:

الأول مرفوض قطعًا وهو التهوين من أمر الجهاد بمعنى القتال في سبيل الله ومجاهدة الأعداء، وقد قال تعالى:﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ (20)﴾ (التوبة).

 

الثاني: هو التعظيم من أمر مجاهدة النفس.. وهو أمر مطلوب لكنه لا يعني أن الحديث صحيح ومن الطرائف المتعلقة بالحديث تعليق الدكتور أحمد عمر هاشم متهكمًا (رواه استعماري)، أي داعيًا إلى الركون والسكون والدعة والاستسلام والخنوع والخضوع والقبول بالأمر الواقع وعدم مقاومة الأعداء أو التصدي لهم.

 

3- الدعاء وحده لا يكفي!

نعم.. فالحريق المشتعل وألسنة النيران المتصارعة المتسارعة لا يُطفِئها الدعاء ولا يخمدها البكاء دون الإسراع برص الصفوف وإغاثة الملهوف ولا يتصور عند كل حريق أن يجتمع أولو الصلاح والتقى باكين شاكين متضرعين إلى رب البرية أن يخمد النيران ويطفئ الحريق دون أن تتنافس الأيدي وتتسابق الأجساد.. تدق الهاتف لفرق الإطفاء أو تعتلي أسطح المنازل ينقذون الأرواح ويداوون الجراح، مستخدمين كل الوسائل المتاحة والطرق المباحة، وحبذا لو تسلحوا بالوسائل التقنية الحديثة وتخلوا عن الأساليب المخزية والخبيثة.
عندئذٍ.. وعندئذٍ فقط يُسدّد الله رميتهم ويجيب دعوتهم ويُفرِّج كربتهم، فالتعاطف وحده لا يكفي!

 

4- السب والشتم لا يعيد مجدًا ولا يحرر أرضًا:

وآخرون أصحاب عواطف ومشاعر نبيلة يضايقهم تكالب الأعداء وتراخي الأصدقاء وضياع الهوية، وضعف الأمة فلا يجدون ملجأ إلا السب والشتم، وهو سلاح المهزومين.

 

لا يعيد مجدًا ولا يحرر أرضًا، مثلهم كمثل راعٍ للإبل هاجمته عصابات من قطاع الطرق والسطو المسلح فسلبوا ما لديه.. وأقبل صاحب الإبل وقد ألجمته الكارثة فبادره الراعي "أوسعتهم شتمًا ورحلوا بالإبل".

 

وكم من أبواقٍ سبَّت وأفواهٍ شتمت ووسائل إعلام شجبت واستنكرت فما ردت عدوًا ولا أنقذت وطنًا ولا أغاثت شعبًا ورحل الأعداء بفلسطين والعراق وأفغانستان وفي طريقهم إلى السودان.. سلبوا الأموال واستباحوا الأعراض واختلسوا مقدرات الأمة ونهبوا ثروات الأوطان.

 

5- سهام موجهة إلى غير الهدف:

وقومٌ تألموا فصبوا جلَّ غضبهم وصوبوا نيران أسلحتهم في غير الهدف فبدلاً من مهاجمة الأعداء طعنوا الأصدقاء، ونقدوا الأحياء وأطلقوا النيران على الضحية ووفروا سبل الهروب للجلاد فهلا كانوا من أصحاب النخوة وأرباب النجدة فواجهوا عصابات السطو المسلح التي تروع الأطفال وتسلب الأموال وتهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور فإن لم يملكوا قوة الأبدان فأين دور المقال والبيان؟

ولم لا يوظفون اللسان لفضح المخططات وتعرية المكائد وكشف المؤامرات؟؟

 

6- سارع لتنجو من الغرق!:

والسفينة الغارقة التي وصفها حديث النعمان بن بشير المروي في صحيح البخاري حيث أوغلت فيها معاول الهدم والتخريب لا ينجيها إلا تكاتف جهود المصلحين وتسابق أيادي المؤمنين لتصلح الخرق وتمنع اتساعه وإلا هلكوا جميعًا الصالح منهم والطالح.

 

فشارك بالأخذ على أيدي السفهاء تنجُ من الغرق
فإن عجزت أو مُنعت أو قُهرت فأطلق نداء الاستغاثة بلسان الطهر وحلو البيان فهذا أضعف الإيمان وإلا فقد طوتك صفحة النسيان.

 

7- توكُّل لا تواكل

نعم أحسن التوكل ولا تتواكل ولا تتعلل بقضاء الله وقدره فهذه حجة المؤمن الضعيف، أما المؤمن القوي فهو قضاء الله غالب وقدره الذي لا يرد ولا يفوتك أن "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف" رواه مسلم.

 

وقديمًا قالها جدك عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- "نفر من قدر الله إلى قدر الله" متفق عليه عن بن عباس.

 

فتمرد على الخنوع وفر إلى ربك حيث له وحده الخشوع ومنه تستمد القوة في مواجهة الخضوع ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)﴾ (الذاريات).

 

وتأمل توكل الطير "تغدو خماصًا وتروح بطانًا"- رواه أحمد والترمذي عن عمر رضي الله عنه.

 

وتابع حركتها من البكور إلى الغروب في بحث عن الرزق وتنقيب عن الأجر، فالتوكل تنمية وتربية، وقد قال سهل التستري: "مَن طعن في الحركة فقد طعن في السنة، ومَن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان".

 

وأفضل التوكل هو توكل الأنبياء وورثتهم من الدعاة في إقامة دين الله ونصرة دعوته وجهاد أعدائه ودفع فساد المفسدين في الأرض الذين يبغونها عوجًا ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.

 

وتذكر حديث رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم:- "اعقلها وتوكل" رواه الترمذي وابن حبان، فالتوكل حال النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- والسعي سنته فمَن عمل حاله فلا يتركن سنته.

 

8- النصر مرهون بالأخذ بالأسباب:

فالنصر مرهون بإعداد العدة بأسباب القوة والعودة إلى ربِّ العزة والتزود بالإيمان والتآلف والتكاتف وآخر الدواء الكي.

 

والحق يناديك أعطني إيمانًا أهبك نصرًا
والقرآن يجلي بصيرتك ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأنفال: من الآية 62).

 

والسيف لا يعمل إلا بيد بطل وحتى الطائرة بدون طيار تحركها يد عالمٍ مخترعٍ مبتكر مقاتل بعلمه وعقله وفكره وسنن الله لا تُحابي أحدًا كما قال السيوطي رحمه الله" (إذا نزل المؤمن والكافر إلى قاع البحر فسينجو مَن قد تعلَّم السباحة).

 

9- لم يتمعر وجهه فهلك! وسلبية المشاعر مهلكة:

فالإسلام يربي الجوارح والمشاعر والقلب والحواس على الإيجابية ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ (الحديد: من الآية 16).

 

وكيف بمؤمن يتعايش مع الباطل لا يهتز له كيان ولا تتحرك مشاعر ولا تثور إرادته!! ولك في الرجل الذي أهلكت قريته المثل والعبرة فقد كان صالحًا لكنه سلبي المشاعر أرسل الله عز وجل الملائكة لتهدم القرية على أهلها فجاءت الملائكة قالوا: يا رب بها عبدك فلان المؤمن، قال: "به فابدءوا؛ إنه لم يتمعر وجهه يومًا في سبيلي" فكن صالحًا طاهرًا ولا تكتفي بصلاح نفسك فحسب.

 

10- لا تكن إمعة:

فالمؤمن ذو رأي لا يقول "إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت" رواه البخاري فهو ينأى بنفسه أن يكون شيطانًا ساكنًا لا يقوى حراكًا ولا يستطيع فكاكًا ولك في مؤمن آل فرعون المثل وفي مؤمن آل ياسين القدوة وكلاهما كان رجلاً في حركاته وسكناته إضافة إلى رجولة لسانه وبيانه فجاء من أقصى المدينة يسعى لا يحجزه خوف ولا يحبسه حرص وهكذا المؤمن يسعى بشدة ساقية مع المستغيث اللهفان ويحمل بكلتا يديه مع الضعيف الولهان يُبصر للأعمى ويسمع للأصم ينصر أخاه ظالمًا فيحول بينه وبين الظلم ولا يسأل كيف أنصره مظلومًا؟؟

 

فقد انقلبت الموازين وتغيرت المعايير وأصبح البديهي مستغربًا وتحولت الثوابت إلى متغيرات!
ورحم الله المهندس الصروي يقول: علمني قفزة الثقة فدرب نفسه وافطمها الانغماس في السلبية ولا تستجب لبكائها عند الفطام وانسلخ من صحبة المثبطين وأصحاب العزائم الضعيفة والخوار الإداري!

 

11- وهزي إليك بجذع النخلة:

وتأمل حال الطاهرة (مريم) رغم حالة الضعف البدني عقب ولادة مؤلمة نفسيًا قبل آلمها العضوي يناديها (القادر) سبحانه (الرازق) عز وجل: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)﴾ (مريم) فإذا تحركت يدها الضعيفة المرهفة أطعمتها يد القدرة القوية الكريمة، فمن تقرَّب إلى ربه ذراعًا تقرَّبَت إليه النجدةُ باعًا، ومن أتى يمشي أتاه الفرج مهرولاً.

 

فالسلبية موات والإيجابية حياة والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فلا تكونن في عداد الأموات وأنت تمشي على رجليك.

 

12- ولا يغرنك بيت العنكبوت:

﴿وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ﴾ (العنكبوت: من الآية 41).
فبيت العنكبوت يبدو من الخارج حريري المظهر متميزَ الشكل متماسك الأركان جميل الطلعة لكنه في الواقع أوهن البيوت.. وهكذا الباطل!

 

مد يدك وستفاجأ.. سرعان ما ينهار البناء وتتمزق الخيوط وتهتز الأركان فلا يغرنك صيحات الباطل باستقرار أمره وطول أمده.

 

وتذكر أن الذي نصر أصحاب طالوت وهم أذلة ونصر أصحاب محمد يوم بدر وهم قلة ويوم الخندق وهم محاصرون سينصر جنده وهم الصامدون.

﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21).