- أمريكا ستستمر في تدعيم أمراء الحرب ضد التقدم الإسلامي للمحاكم

- الدول العربية ضعيفة وليس لها أرضية بشعب 99% منه مسلمون

 

تحقيق- حسونة حماد

على مدى الـ16 عامًا الماضية كان هناك نوعٌ من الإهمال الشديد وغضٌّ للبصرِ عن الأوضاع في الصومال، سواء من الجامعة العربية أو الدول العربية والإقليمية أو حتى على المستوى الدولي في ظل وجود شعبٍ بلا حكومة تتجاذبه مجموعةٌ من أمراء الحرب والتنظيمات والمليشيات العسكرية، يعاني معاناةً إنسانيةً شديدةً جدًّا.

 

شعب أهمله المجتمع الدولي بشكل مؤسف للغاية، وعندما أرادت الولايات المتحدة أن تتدخل جاءت لتستعمرَ، فلقنها الشعب الصومالي درسًا قاسيًا ما زالت آثارُه على الإدارة الأمريكية حتى الآن، ولعل هذا هو ما دفع الولايات المتحدة إلى دعم قادة الميلشيات العسكرية المتقاتلة هناك والذين عُرفوا فيما بعد بأمراء الحرب، ووجَّهت إليهم الأموالَ والإمكانات بهدف واحد صريح، وهو أن يظلَّ هذا البلد العربي والمسلم- الذي يقع في منطقة هامة وخطيرة بإفريقيا ويعد بوابة من بوابات العالم العربي- في تحارب وقتالٍ مستمر.

 

وخلال الشهرين الماضيين اختلفت اللعبة وبات في مقدمة المشهد الصومالي جماعة جديدة ترسخ أقدامها يومًا بعد يوم، منطلقةً بدعمٍ شعبي جارف فتوالت الخسائر والهزائم على أمراء الحرب، إنها المحاكمُ الشرعية التي سيطرت على مقدشيو العاصمة ومدينة جوهر الإستراتيجة، وعددٍ آخر من المدن الصومالية الهامة، مما دفع مؤخرًا البرلمان الصومالي إلى التصويت على قرار يسمح باستقدام قوات أجنبية لحماية أمراء الحرب.

 

وهو التطور الذي يطرح العديدَ من التساؤلات عن مستقبل الأوضاع في الصومال، ولماذا هذا التحرك الدولي المفاجئ عندما اقتربت الميلشيات الإسلامية من السيطرة على الصومال.

 

رفض أمريكي

في البداية يرى اللواء دكتور عادل سليمان- الخبير الأمني والإستراتيجي- أن النجاح الملحوظ للمحاكم الشرعية أمرٌ طبيعي؛ لأنها تنظيمات تدعو إلى العدل والحرية والتسامح مع الآخر، وأرجع هذا النجاح أيضًا لتعاطف الشعب الصومالي معها ضدَّ أمراء الحرب بسبب سوء سمعتهم وسلوكياتهم وعدم نجاحهم في تحقيق أي شيء.

 

ووجَّه سليمان انتقاداتٍ شديدةً للموقف العربي تجاه القضية الصومالية، ووصفه بأنه يتسم بالسلبية الشديدة جدًّا، ولا يوجد أي تحركٍ إيجابي لمحاولةِ التدخل لدعمِ الصومال، مشيرًا إلى أن خطورة ما يحدث في الصومال ليس في الاقتتال الداخلي، وإنما الخطير في هذا البلد هو معاناة الشعب الصومالي بصرف النظر عن كل الصراعات السياسية القائمة التي تنصب نتيجتها في معاناةٍ إنسانيةٍ ضخمة جدًّا (مجاعات، أمراض، مستوى معيشة ومستوى فقر متدنٍّ للغاية..).

 

وقال سليمان إنه إذا تحرَّك المجتمع الدولي والعالم العربي في الاتجاه الصحيح للخروج بالشعب الصومال من المعاناة التي يعيشها، وبعيدًا عن الأوضاع السياسية والأمنية أو مساندة تيار ضد تيار فإنه يمكن أن يستعيدَ الشعب الصومالي صحته وعافيته مرة ثانية، خاصةً وأن الشعب الصومالي يعتبر من الشعوب القليلة جدًّا الذي لا يوجد به تقسيمات عرقية، مما يجعله نموذجًا للتجانس، ويسهِّل توحده بشكل سريع وبمجرد التعامل المباشر مع المشكلات الإنسانية القائمة بشكل إيجابي.

 

وعن المواقف العربية والدولية من الوضع الحالي في الصومال يرى سليمان أن الموقف الأمريكي أهم ما يعنيه في الصومال ألا تتحول إلى بيئةٍ حاضنةٍ للإرهاب، وألا تتحول إلى ملجأ آمن لتنظيمات القاعدة من وجهة النظر الأمريكية، ولعل هذا ما يجعل الولايات المتحدة قلقلةً على أنصارها من أمراء الحرب وتسعى إلى تدخل قوات دولية لمنع تقدم المحاكم الشرعية مهما كلَّفها ذلك.

 

جذور

من جانبه رفض الدكتور محمد عبد السلام- الخبير الإستراتيجي بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام- ما يردده البعض من أن المحاكم الشرعية وجهٌ جديدٌ في الصومال، مؤكدًا أن هذه المحاكم لها جذور في الصومال، ولها أرضية كبيرة ساعدتها على التقدم بسرعةٍ على أمراءِ حرب خلال معارك لم تستغرق أكثر من أربعة أشهر، فسيطروا على مقديشيو وجوهر وغيرهما من المدن الهامة.

 

إلا أن عبد السلام قال: إن المحاكم الشرعية ما زالت لها شروطها الخاصة بتطبيق الشريعة الإسلامية، وبعضها غير واضح، وهو ما يتطلب منها شرح وتوضيح ما يلتبس عند الغير.

 

وأضاف أنه بالرغم من أن المحاكم الشرعية لها تقليدٌ صومالي عريق من خلال المحافظة على القضاء والقانون لفترة طويلة، إلا أنه ومع اقترابها من الحكم فإن اشتراطها تطبيق الشريعة كشروطٍ مسبقة للحوار مع الآخرين قد يدخل الصومال في مشكلة كبيرة، خاصة وأن هناك دعمًا أمريكيًّا واضحًا ومممتدًّا لأمراء الحرب منذ انسحبت القوات الأمريكية من مقدشيو عام 1993م، بل إن الولايات المتحدة أصرَّت وحافظت على أن تكون تسمية هؤلاء الأمراء "التحالف ضد الإرهاب"، ووجهته ضد المحاكم الشرعية وضد حركة الاتحاد الإسلامي في ذلك الحين، ورغم أن هذه السياسية فشلت في الوقت الحالي بدليل تقدم المحاكم الشرعية على حساب أمراء الحرب الآخرين، إلا أن الولايات المتحدة لن تغيِّر سياستها بسهولة تجاه الصومال، وستظل لفترة محافظة على سياستها الخاصة بدعم أثيوبيا وحصار الصومال من الخارج ومراقبة مؤسسات التمويل الداخلية وعدم التعاون مع المحاكم الشرعية إلا في حدود ضعيفة جدًّا.

 

وفيما يتعلق بموقف الدول العربية قال عبد السلام: إن هذه الدول لديها تقييمات عديدة للوضع في الصومال وفي النهاية فإن الضعف العربي لن يسمح بأي دورٍ يُذكر للدول العربية في هذا البلد الهام والخطير.

 

وأضاف أن هذا لم يمنع وجود بعض المحاولات من جانب بعض الدول مثل مصر والسعودية وحاليًا ليبيا للتعامل مع الموقف، لكن ليس لديها عناصر نفوذ حقيقية، وكان في تقديرات كل منها أن أي شخص سيقدم يده للصومال سوف يلسع، وأن الصوماليين هم الذين يتحملون مسئولية أنفسهم.

 

وشدَّد عبد السلام على أنه إذا لم يحدث تفاهم بين المحاكم الشرعية والآخرين سوف تعود الحرب مرة أخرى، ويصبح الصومال في ظل حرب أهلية أخرى وليس في ظل حكم المحاكم الشرعية.

 

خريطة القوى الإسلامية الصومالية

ولأن المحاكم الشرعية باتت هي المعضلةَ في وجهة النظر الأمريكية، والتي من أجلها استصدرت الولايات المتحدة قرارًا من البرلمان الصومالي باستقدام قوات أجنبية لوقف تقدم ميلشيات المحاكم الإسلامية فإننا نقدِّم في السطور القادمة ملخصًا لخريطة القوى الإسلامية في الصومال، وهي دراسةٌ أعدها الدكتور محمد عاشور الأستاذ بمعهد الدراسات الإفريقية والتي أكد فيها أن الصومال لم تعرف ظاهرة الحركات والجماعات الإسلامية المؤسسية بشكل بارز وفاعل إلا مع سقوط نظام حكم سياد بري واندلاع الحرب الأهلية في البلاد عام 1991م، بسبب الطبيعة الخاصة التي اتسم بها الشعب الصومالي من وحدة الدين، حيث يدين 99% من السكان جميعهم بالإسلام، ويتبعون المذهب الشافعي، ووحدة العرق الصومالي، علاوةً على وحدة اللغة، الأمر الذي جعلها مضرب المثل في الوحدة القومية.

 

يضاف إلى ذلك إلى الخطاب السياسي الصومالي الذي ركَّز طويلاً منذ استقلال البلاد ووحدتها عام 1961م وحتى أواخر الثمانينيات على ضرورة استعادة وحدة البلاد في إطار الصومال الكبير- بما يعنيه ذلك من استرداد أراضٍ خاضعة لأثيوبيا وكينيا، علاوة على جيبوتي- قد أدى إلى الحيلولة دون بروز تيارات دينية فاعلة على الصعيد السياسي، وقوة الروابط العشائرية والقبلية في البلاد، والتدين الفطري للشعب الصومالي؛ لذا اقتصرت الجماعات والتنظيمات الدينية في البلاد على مجرد أفرع وامتدادات لجماعات خارجية تهدف إلى نشر المبادئ والتعاليم الإسلامية.

 

وأضاف أنه مع اندلاع الصراعات الداخلية وتناميها حدثت تحولات في طبيعة تلك التنظيمات من حيث تكوينها وأهدافها، وأهم هذه الحركات:

 

أنصار السنة:

تعتبر من أقدم الجماعات الإسلامية في الصومال، وتتركز دعوتها في المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، وتُصْدر بعض النشرات والكتيبات التي تعبِّر عن أهداف الجماعة وأنشطتها.

 

جماعة التبليغ والدعوة:

هي تنظيم ذو قيادة جماعية تسعى إلى تعليم الأفراد أصول الدين الإسلامي، ومن مبادئها الأساسية عدم الخوض في الأمور السياسية، والاعتماد على العمل الميداني في القرى والمدن؛ لتعليم الصوماليين وغيرهم أصول دينهم من قرآن وشريعة، وإعداد الدعاة لهذا الغرض.

 

الطريقة القادرية:

تُعَدّ من أقدم الطرق الصوفية في أفريقيا بصفة عامة، وفي المناطق الجنوبية من الصومال خاصة، مع وجود أنصار لها في شمال البلاد، وتركِّز على رعاية أنصارها، ونشر تعاليمها بينهم، والإعداد الروحي لهم، وتلقينهم مبادئ الدين الإسلامي وتعاليمه، مثلها في ذلك مثل غيرها من الطرق الصوفية الأخرى واسعة الانتشار في القارة التي يرى البعض أنها المنبع الأساسي لمختلف الحركات الإسلامية.

 

مجمع علماء الإسلام:

هو تنظيم يضم مجموعةً من العلماء ورجال الدين البارزين في البلاد، ويستهدف توحيد جهود التنظيمات والمؤسسات الإسلامية بصرف النظر عن توجهاتها، ويشرف ذلك التنظيم على عدد كبير من المساجد والمدارس الإسلامية، ويُصدر فتاوى فيما يُعرض عليه من الأمور المختلفة، ويرتبط بهذا التنظيم الحزب الإسلامي الصومالي، حيث يخضع التنظيمان لرئاسة واحدة.

 

الحركة الإصلاحية الإسلامية:

تتبع منهج "الإخوان المسلمون" من حيث المشاركة في مختلف الأنشطة الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والسياسية في البلاد، وإعداد الكوادر ودفعها لتولي مسئولية العمل في مختلف الميادين، وكان لمرشد الحركة الروحي "محمد نور عزيزي" ميراثٌ سلبي مع نظام سياد بري الذي قام في بدء تدشينه عام 1969م، بإقالة عزيزي من منصبه كمدير للشئون الدينية، الأمر الذي انعكس بدوره على علاقة النظام مع الحركة التي يتزعمها الدكتور "علي شيخ أبو بكر"، رئيس جامعة مقديشو حاليًا، وينتشر أنصار الحركة في أنحاء البلاد ولا سيما مقديشيو.

 

حركة الإصلاح الإسلامي:

هي حركةٌ تابعةٌ للحركة الإصلاحية الإسلامية، وتمثِّل ذراعًا عسكريًّا لها، حيث تمتلك قوةً عسكريةً صغيرةً وتتركَّز في مقديشيو.

 

حركة الاتحاد الإسلامي:

تعتبر تلك الحركة من أقوى وأقدم الحركات اعتمادًا على القوة العسكرية كأداة للتعامل مع النظام السياسي والمناوئين لها، وتستمد قوتها من انتشارها في أنحاء البلاد، وانضواء عناصر من مختلف القبائل في صفوفها، لا سيما في جنوب البلاد، حيث تمكنت من بسط هيمنتها ونفوذها على مناطق حيوية، فضلاً عن رصيدها الشعبي في مناهضة الحكم الأثيوبي في الصومال الغربي (الأوجادين)، وما أكسبها ذلك من خبرات قتالية، فضلاً عن روابطها مع الصوماليين على الجانبين.

 

حركة وحدة الشعب الإسلامي:

تتركز تلك الحركة في شمال الصومال، وتستهدف إعادة توحيد الشعب الصومالي استنادًا إلى مبادئ الشريعة الإسلامية وعبر تطبيق شرع الله كما عبَّر عنه القرآن والسنة.

 

حزب الله الإسلامي:

تأسَّس ذلك التنظيم على أيدي مجموعة من الطلاب في يونيو 1996م، كردِّ فعل لقيام بعض عناصر التحالف الصومالي بمهاجمة مسجد التضامن الإسلامي في مقديشيو في إبريل 1996م، وذكروا في أسباب قيام التحالف بذلك أنه يستهدف محاربة العناصر المناهضة للإسلام في الصومال.

 

تحالف القبائل الإسلامية الموحدة:

يضم تجمعات قبلية إسلامية تنتهي بالأساس إلى قبائل الهاوية وفروعها، ويستهدف ذلك التنظيم وضع حدٍّ للفوضى التي سادت الأسواق في جنوب مقديشيو.

 

المسلمون المستقلون:

يتزعمهم المفتي "شريف عبد النور"، ويتركز أنصاره ونشاطه في مقديشيو، وليس له نشاط عسكري مميز.

 

لمحة تاريخية

ويؤكد عاشور في دراسته أن هذه الحركات في مجملها أسهمت في التخفيف من التداعيات الاجتماعية والاقتصادية للأزمة الصومالية، حيث عملت على سدِّ الفراغ الناجم عن غياب المؤسسات المختلفة للدولة، من خلال تعليم الأفراد القرآن الكريم والمبادئ التعليمية وتقديم الرعاية الصحية، وتوزيع المواد الغذائية، وحفظ الأمن، وحماية ما تبقى من المرافق العامة والممتلكات، والفصل في النزاعات والخصومات بين الأفراد عبر تطبيق الشريعة.

 

إن الخطاب الإسلامي لهذه الحركات وما حققه من نجاح على الأصعدة سالفة البيان قد أدى إلى سعي القادة القبليين من أمراء الحرب إلى استقطاب تلك الحركات والتنظيمات إلى جانبها، الأمر الذي أدى إلى بعض المثالب التي شابت ممارسات بعض تلك التنظيمات التي خلط أنصارها بين المصالح القبلية والعشائرية، وبين المقاصد العامة للشريعة التي يستهدفها التنظيم أساسًا.

 

إن معظم التنظيمات الإسلامية- وإن لم تتورط في الحروب القبلية التي شهدتها البلاد- رفضت التدخل الأجنبي في الشأن الصومالي، وبخاصة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي توجَّست تلك التنظيمات منها خيفة بفعل انحيازها التاريخي لأثيوبيا، وبفعل ارتباطات بعض تلك التنظيمات بقوى وتنظيمات خارجية مناوئة للولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي أدَّى إلى تعاون غير مقصود بين التنظيمات الإسلامية- وفي مقدمتها الاتحاد الإسلامي- والتحالف الوطني الصومالي بقيادة "محمد فارح عيديد" في حربه ضد القوات الدولية والأمريكية تحديدًا، التي تكبَّدت الولايات المتحدة فيها خسائر بشرية ومادية، كان لها تأثيرها في قرار الإدارة الأمريكية سحب قوتها من الصومال عام 1994م.

 

إن موقف معظم التنظيمات الإسلامية من المصالحة الصومالية وجد له ترجمة عملية، تمثلت في إعلان الكثير من التنظيمات الإسلامية تأييدها للحكومة الانتقالية التي أسفر عنها مؤتمر "عرتة" بجيبوتي عام 2000م، وقيامها بتسريح ميليشياتها العسكرية أو إعادة تأهيلها وتدريبها لتوزيعها على أجهزة الدولة المرتقبة المختلفة، لا سيما الجيش والشرطة، كما أقدم تنظيم "الاتحاد الإسلامي" على إغلاق عدد كبير من المحاكم الإسلامية التابعة له؛ لتمهيد الطريق أمام قيام السلطة القضائية للدولة لبسط ولايتها على البلاد في إطار المؤسسة القضائية الرسمية.